أحدث مقال

سؤال المدينة بين الرهانات والآفاق


سؤال المدينة بين الرهانات والآفاق


يوسف عاشي: طالب باحث في سلك الدكتوراه، كلية الاداب والعلوم الانسانية مكناس.



نسعى من خلال هذه الورقة إلى إثارة إشكاليات وتساؤلات حول المدينة بمفهومها الجغرافي المجالي والاجتماعي العميق، لذا أنخرط من موقعي للتساؤل والاستفسار انطلاقا من إشكال جوهري حول ماهية وملامح المدينة التي نريدها وذلك في سياق الحديث عن العيش المشترك وفي ظل المتغيرات المرتبطة بتجدد الرهانات والتحديات المطروحة أمام المدينة، وبالخصوص مدينة الجنوب أو مدن دول العالم الثالث. وكذلك من أجل فتح أفق للتفكير في ما بعد المدينة وما بعد الحضارة في إطار سيرورة المابعديات انطلاقا من ما بعد الميتافيزيقا إلى ما بعد الحداثة أو ما بعد الحداثات إلى موت الإيديولوجيات وبداية نهاية العولمة وصولا إلى ما بعد الحروب البيولوجية والكيماوية (كورونا...) وإعادة تصور تشكيلات للأفق الكوني القادم؛ العلوم الاجتماعية والإنسانية أمام تحديات التنظير والتأسيس للمرحلة وللسيناريوهات التالية وفقا لبراديغمات بديلة لفهم وتفسير الظواهر الراهنة والمستقبلية.
أصبحت المدينة حقلا للعديد من النظريات والتفسيرات وحلبة صراع بين العديد من التيارات. ورغم تباين الخلفيات النظرية والتحليلية المتحكمة في هذه التيارات، فإنها دائما ما تسعى إلى الكشف عن حقيقة وواقع وميكانيزمات (البنية والتنظيم) المدينة باستعمال مناهج متشابهة إلى حد ما (العلوم الاجتماعية).
ابستمولوجيا المدينة مفهوم دينامي متشعب، لا يمكن الإحاطة به بشكل شمولي، لكونه تتقاسمه تخصصات وأدبيات عديدة، وتتم مقاربته من زوايا مختلفة. فالمدينة إذن كيان ترابي وتنظيم اجتماعي ومؤسساتي بحمولاته وأبعاده المتعددة، فهي مركز جذب واستقطاب يتجاوز إشعاعها حدودها الجغرافية، فهي المنتج والمصدر للمادي والرمزي.
فغالبية الأبحاث الجغرافية والسوسيولوجية تتحدث عن المدينة كنتاج لسيرورة تركز السكان والأنشطة وتزايد حجم وكثافة السكان في مساحة محددة، رغم أنها تستعمل مفهوم التحضر كترجمة لهذه السيرورة، بينما نحن نستعمل مفهوما آخر وهو التمدين؛ ويتحدث السوسيولوجي مانويل كاستيل  في مستهل دراسته حول  المسألة الحضرية: "في أدغال التعاريف الدقيقة التي أغنانا بها علماء الاجتماع يمكننا أن نميز بوضوح معنيين لمفهوم التمدين/التحضر": التحضر باعتباره تركزا مجاليا للسكان انطلاقا من حدود معينة من حيث الحجم والكثافة، والتحضر باعتباره انتشارا لنسق من القيم والمواقف والسلوكات، يسمى ثقافة حضرية. ويتضمن مفهوم التحضر/ التمدين ثلاثة أبعاد أساسية، وهي: التمدين كامتداد مجالي للمدينة، وكنمو للحجم والكثافة السكانيين، وكتطور لنمط عيش حضري/مديني؛ لذا لا يمكن فصل المدينة عن التمدين؛ ويعرف جورج جورفيتش المدينة على أساس أنها عبارة عن نتاج تركيز السكان ووسائل الإنتاج...، في حين يمثل المجتمع القروي العزلة والانفصال. ويشير الأب الروحي للسوسيولوجيا إميل دوركايم في كتابه "في تقسيم العمل الاجتماعي"، في محاولة لتفسير المدينة والتمدين كسيرورة الانتقال من مجتمعات التضامن الآلي إلى مجتمعات التضامن العضوي، حيث يميز البادية بسيادة التضامن الآلي المبني على التشابه (العقلية، الشخصية) وفقا للأعراف والعادات؛ بينما تتميز المدينة بالتضامن العضوي، القائم بين أفرادها المختلفون فتقسيم العمل تجعلهم في حاجة الى بعضهم. ولا يختلف عنه ماكس ڤيبر كثيرا حيث يعتبر المدينة أنها تتشكل من السكن المتجمع في مجال ضيق.
فالمدينة إذن انتقال مجالي واجتماعي وثقافي من حالة إلى أخرى، يعني في البداية الإنتقال من الطابع البدوي/الريفي/القروي للحياة التي يغلب عليها انتشار السكن المتفرق والاقتصاد الفلاحي الأولي إلى حياة مدينية/حضرية يغلب عليها السكن المتجمع ويسود فيها الاقتصاد التجاري والخدماتي (هيمنة الأنشطة غير الفلاحية). وهو الانتقال من الأشكال التقليدية للمجتمع الى الأشكال الحديثة في المجتمع المديني/الحضري المعقد والمركب، حيث توسعت المدن وانتشرت مظاهر الاستلاب والعزلة والعلاقات اللاشخصية وأصبحت العلاقات مجرد تشييء وانعدمت العلاقات الإنسانية ويصبح فيها الفرد غير مبالي بمحيطه، نظرا للنزوع المتزايد نحو الفردانية.
عرفت المدن نموا متسارعا وأصبحت أكثر جذبا لتيارات الهجرة وللأنشطة الاقتصادية وبؤرة للرهانات والمضاربات وفضاء للنقاش والتفاعل والصراع بين مختلف الفاعلين والفئات، فتمثل حالة من التجانس أحيانا ينصهر فيها الأفراد ويتشابهون في ممارساتهم وسلوكاتهم، وحالة من التفكك والتناقض تتعارض فيها الآساليب والأنماط، وكذلك حالة من الصراعات الطبقية بين فئاتها. إن نمو المدينة عبر مسارات معينة جعلها تكتسح وتلتهم المجالات المحيطة بها، وتهيمن اقتصاديا وسياسيا وثقافيا على المجال بفعل قوة إشعاعها (تأثير إداري، سياسي، اقتصادي، تقافي وايديولوجي).
تختلف مسارات تطور ظاهرة التمدين بدول العالم الثالث، فقد كانت دولا ذات طابع ريفي قبل الغزو الإمبريالي، لتتحول إلى دول مُدُنية مباشرة بعد خلخلة نظمها وبنياتها، لتصل اليوم إلى مرحلة تهيمن فيها مدن ميتروبولية استراتجية منخرطة ومعولمة. وشهدت مدن العالم الثالث مطلع القرن الواحد والعشرين ثورة حقيقية مرتبطة بإعادة تشكل نسيجها وبنياتها. وتواجه المدينة في ظل السياقات الحالية مصيرا مجهولا، وتظل اليوم في صلب النقاش العمومي بفعل ثقل رهاناتها، رغم الاهتمام الذي نالته عبر تاريخ تطورها على حساب البوادي، فإن أزمتها تتجدد كما الحال لرهاناتها.
وفي الوقت الذي كانت تسعى فيه مدن غروبيوس ولوكوربيزي والدفنسو سيردا وغاودي إلى تحقيق المثالية والتوفيق بين الشكل والوظيفة، زاد وضع مدن العالم الثالث تأزما، ولم يعد التحكم فيها ممكنا (مدن خارج السيطرة التنظيمية والتخطيطية). إن مدينة العالم العالم الثالث في القرن الواحد والعشرين تنظيم ارتجالي (مقارنة مع مدن الغرب)، أكيد أن جزء منها قد خضع لنوع من التخطيط المحكم، إلا أنها تتخبط في مشاكل حقيقية، مشاكل يرتبط بعضها بسوء التخطيط وضعف في مستوى الكفاءات المكلفة بتدبير المجال الحضري وبنقص الموارد اللازمة لتهيئتها، وأخرى ترتبط بضعف الإحساس بالمسؤولية وبغياب المبادرة والإرادة السياسية وضعف الإحساس بالإنتماء للمجال (الوطنية).
فمن يتحمل مسؤولية المدينة؟ ومن سيتحملها مستقبلا؟ تسعى مدننا اليوم أن تحقق نوعا من التوازن الشامل، فالمدينة كتنظيم ولكن كمشهد أيضا تتسم بنوع من التناقض الواضح بين الأحياء، وهو تفاوت فئوي (طبقي) في الأصل، نتاج لسيرورة تاريخية من التحولات ساهمت فيها عوامل خارجية امبريالية (الاستعمار والحماية) وعوامل أخرى داخلية مرتبطة بالسياسات والقرارات المحلية، لكن ألسنا في حاجة إلى مدن ذات جمالية تضاهي مدن الغرب؟ وأي مدينة نريد؟ بلا شك، لكل منا رأيه وتصوره، لكننا نكاد نتفق على أننا بحاجة إلى كيان حضري لا يشبه مدن الغرب فقط بل بحاجة إلى مدينة آمنة، كريمة، عادلة ومنصفة، إلى مدينة تضمن الأمن الاجتماعي والاقتصادي، وتوفر فضاء بيئيا وثقافيا ملائما؛ بكل بساطة فالمواطن في حاجة إلى سكن يأويه وإلى شغل يستمد منه قوت عيشه.
ففي الوقت الذي برزت فيه أشكال جديدة للتعمير/للتمدين في الدول المتقدمة، وهي أشكال بمقومات جمالية تنزع نحو الطابع الايكولوجي والبناء العمودي حفاظا على الأراضي الخصبة وانسجاما مع سياق التقلبات المناخية، فإن مدن العالم الثالث ما هي إلا استمرارية لأنماط تقليدية لم تعد صالحة للوضعية الراهنة، وهي كيانات تتوسع أفقيا بشكل مخيف ليس لها خلفيات معينة تسمتد منها هويتها المجالية والثقافية "مدن بدون هوية ترابية" وهي مساحات من الإسمنت المسلح تفتقد إلى سمة الجمالية.
تتميز المدينة بصراعاتها المادية والرمزية، بعضها لا يمكن رصدها، ورغم تجدد رهاناتها وارتباطا بتزايد الاستثمارات وتزايد الطلب على السكن، يشكل العقار إذن عنصرا استراتيجيا في منظومة المدينة، فهو المحدد الأساسي للتفاوت الاجتماعي والطبقي (سلطة العقار)، فهو القاعدة والمحرك الأساسي للديناميات الحضرية. ويظل العقار من أكثر العناصر المؤججة للمنافسة والصراع، لأنه يقع في محل صراع ثلاثي الأطراف، مواطن يسعى للحصول على عقار بقيمة مناسبة، ومضارب يسعى لتحقيق أكبر نسبة من الربح، ومؤسسات الدولة التي تسعى إلى المراقبة والتحكم لتحقيق نوع من التوازن بين جميع المتدخلين المؤثرين في الصراع.
ويبقى الإدماج الاقتصادي والعيش المشترك من أكثر الرهانات تعقيدا المطروحة اليوم فيما يخص تدبير المجالات الحضرية، خاصة في سياق أزمة السكن وتزايد الحراكات الاجتماعية وكذلك في ظل التفاوتات والصراعات الفئوية (الطبقية) بحمولاتها السوسيواقتصادية والثقافية والاديودينية.
أعيد كذلك طرح تساؤلات قد تبدو بديهية، لكنها جوهرية لفهم بعض الجوانب المتعلقة بمسار تطورها: من يهيمن على المدينة؟ أي من يحكمها ويتحكم فيها؟ ومن يستفيد من نموها وتضخمها وخيراتها؟ قد يكون السياسي أو السلطوي أو المستثمر أو أي فاعل آخر (لوبيات، ملاكين كبار، مجموعات عقارية)، تعيش المدينة اليوم تحت رحمة قرارات السياسيين والمدبرين، فالبرامج والتصاميم المهيكلة للمدينة ما هي إلا ترجمة لتصورات هؤلاء الفاعلين (مجلس المدينة، مؤسسات، خواص...). في المدينة إذن فئتين: الفئة الحاكمة وهي فئة مهيمنة سواء بواسطة السلطة ووسائل الإنتاج والمضاربات والأعمال "البزنيس" أو بوسائل أخرى، وهي الفئة الأكثر استفادا من خيرات وفرص المدينة، وهي نفس الفئة التي تحدد مصير المدينة وتقوده؛ وهناك فئة محكومة تحاول أن تواكب وتساير السياسات والبرامج والسوق، هذه الفئة لا تسعى سوى لتحقيق العيش الكريم.
فما هي ملامح المدينة في تصورات سياسة الفاعلين الترابيين القائمين على تدبير شؤون المجال الحضري؟ لماذا تبدو بعض مدن الجنوب في غاية البشاعة؟ وأي تنمية ترابية للمدينة؟ وهل نسعى إلى تحقيق تنمية اقتصادية أم اجتماعية أم ثقافية...؟ تختلف استراتيجيات الفاعلين الترابيين فيما يخص تصور تنمية ترابية للمدينة وذلك باختلاف أهدافهم وخلفيات أرائهم ، وتتطلب تنمية المدينة التنسيق الفعال بين مختلف الفاعلين الترابيين والتنظيم المؤسساتي المحكم، فالباحثون والمسؤولون الإداريون يتحدثون عن إمكانية تحقيق تنمية ترابية شاملة تدمج جل الأبعاد الترابية، والتي يمكن أن تنتقل بوضعية المدينة من حالة إلى حالة أخرى أفضل، فالمدينة بحاجة إلى مدبرين جدد قادرين على نحت معالم الجمالية لمدننا المخيفة، لكن يبقى السؤال مطروحا حول مدى نجاعة آليات وأدوات التخطيط المعتمدة وكذلك حول طبيعة السياسات والبرامج والنماذج التنموية وأهدافها؛ فمدننا تتميز بتعدد الفاعلين القائمين بتدبير شؤونها، فاعلين بآراء وتصورات وتمثلات متباينة، نتساءل أيضا حول مدى تقاطع رؤاهم مع مختلف البرامج والتصاميم المهيكلة للمجال الحضري، وكذلك بمدى التقائية السياسات العمومية (تنسيق بيقطاعي) من أجل تصور مخرجات أفضل.

أحدث مقال

حقيقة إبستمولوجيا الجغرافيا بين الإيديولوجي والعقائدي، قراءة في كتاب الجغرافيا: القول فيها والقول عنها البحث عن الهوية


حقيقة إبستمولوجيا الجغرافيا بين الإيديولوجي والعقائدي.

 قراءة في كتاب الجغرافيا: القول فيها والقول عنها البحث عن الهوية


يوسف عاشي: باحث جغرافي.
Youssefachi1992@gmail.com


إن قراءة كتاب محمد بلفقيه تحكمها أسباب بيداغوجية بالأساس ارتباطا بميزة الكتاب الأكاديمية، لكون الكتاب يشكل مرجعا يجمع بين تأريخ المراحل الأساسية التي قطعها البحث الجغرافي، وعمقه الإبستمولوجي المنفتح على العلوم الإنسانية والإجتماعية. فنحن لا نسعى إلى انتقاد أطروحته بقدر ما نسعى إلى تقريب الطالب الباحث من المعرفة الجغرافية في بعدها الإبستمولوجي، باعتبار أن هذا الكتاب يشكل المنطلق الأساسي لطلبة الجغرافيا في بداية مسارهم الأكاديمي، بل ويشكل مدخلا إبستمولوجيا لفهم العلوم الإنسانية والاجتماعية.
يحمل الكتاب عنوان "الجغرافيا: القول فيها والقول عنها، البحث عن الهوية، ألفه الأستاذ محمد بلفقيه، هو كتاب من الحجم المتوسط صادر عن دار النشر العربي الأفريقي (1991)، ويقع الكتاب في 210 صفحة ويتميز بصيغة فريدة من نوعها من حيث الهيكلة أي بإدراج النص والإحالة معا. واعتمد 223 مرجعا 84 منها باللغة الإنجليزية ويضم 354 إحالة، وتميزت لغة الكتاب حمولة فلسفية وإيديولوجية "سياقوية" وثقل عقائدي، ويشمل أربعة فصول حاول من خلالها الأستاذ محمد بلفقيه تسليط الضوء على تطور الفكر الجغرافي عبر التاريخ محددا المراحل الأساسية التي مر منها. فكيف حاول الأستاذ محمد بلفقيه التأسيس لإبستمولوجيا الجغرافيا من منظور عقائدي؟ فهو كتاب مؤسس لإبستمولوجيا الجغرافيا باللغة العربية. أثار الكاتب نقاشا واسعا بين المهتمين بالعلوم الإجتماعية وخصوصا الجغرافيين، وتلقى الكثير من الإنتقادات خاصة من طرف اليساريين منهم. ألف هذا الكتاب لهاجسين أساسيين: هاجس بيداغوجي أي تربوي وتدريسي سيسمح لطلبة وأساتذة الجغرافيا أن يعرفوا المسار الذي قطعه البحث الجغرافي في العالم، وهاجس مقارباتي وذلك بناء على موقف شخصي، أي أن العلوم الإجتماعية بدون إطار عقائدي شيء غير مجدي. ففي محاولته للتأريخ لعلم الجغرافيا، حاول محمد بلفقيه في البداية توضيح موقف بعض المناهضين الذين هاجموا الجغرافيا ولم يعترفوا بعلميتها، ويؤكد أن الأدهى من ذلك هو تغييب أحد الأعلام الابستمولوجيين (ج.بياجي) للجغرافيا في كتاباته، وانتقل إلى ذكر تصور الجغرافيين أنفسهم للجغرافيا، وكرد على الهجمات التي انهال بها هؤلاء، خصص فقرة عنونها بـ "الجغرافيا في المعاجم العلمية" وذلك لإثبات علمية الجغرافيا. كما اعتبر أن القصور الإبستمولوجي للعلوم الإنسانية كان سببا رئيسيا في أزمة الحضارة المعاصرة. ثم دعا إلى التأسيس لمشروع جغرافي أصيل يهدف إلى توظيف القراءة التاريخية كمدخل عام لإبستمولوجيا الجغرافيا، فكان لابد من وضع تشخيص شامل لأجل فتح آفاق التطور. فالكاتب متفائل من بناء مشروع جغرافي جديد بالنظر للظروف الحالية المواتية رغم اعتقاد البعض استحالة هذا المنظور نظرا للتنافر القائم في الموضوع. أما بالنسبة لمشروع العلوم الانسانية الذي يتصوره من خلال رؤية إسلامية ينحصر في مثلث رحب حسب تعبيره، الأولى تكمن في عقيدة التوحيد والثانية في مقاصد الشريعة، أما الثالثة تكمن في المصالح المرسلة. كما يرى أن التصور الإسلامي وحده الكفيل لصياغة هذا المشروع وحسب تعبير الكاتب ستصبح الجغرافيا في النسق الفكري الاسلامي مطلبا شرعيا.
لذا قام الأستاذ بقراءة في تاريخ الفكر الجغرافي، وبين أن الجغرافيا تقوم على ثلاث ركائز: الموضوع والمنهج والمردودية الاجتماعية، وتساءل عن حقيقة علم الجغرافيا الذي ظل وضعه غامضا، مما أدى إلى طرح أكثر من سؤال حول ماهية الجغرافيا وموضوعها ومناهجها وأهدافها؛ وقام بدراسة نقدية شاملة وتقويم ابستمولوجي للفكر الجغرافي الحديث والمعاصر في الغرب منذ تأسيسه بداية القرن 19. كما وضح بلفقيه إلى أن تطور الفكر الجغرافي مرتبط بشكل كبير بالتطور الحاصل على مستوى فلسفات ونظريات وإيديولوجيات الغرب، لذلك إنتقد بشدة هيمنة هذه الفلسفات الغربية على العلوم الإنسانية والإجتماعية، وخاصة الجغرافيا، وذلك بسبب طابعها العلماني المحض الذي يدفع الجغرافيا إلى التعاطي مع الماديات وإهمال الجوانب الروحية، ودعا إلى اعتماد المذهبية الإسلامية لتأطيرها.
وركز على التمييز بين المدرستين الألمانية والفرنسية، مبرزا مدى مساهمتهما في وضع أسس وقواعد الجغرافيا، ودورهما في الرقي بالفكر الجغرافي الحديث، حيث كانت للأحداث السياسية والأوضاع الإقتصادية والحركات الإجتماعية تأثيرا واضحا في تطور الفكر الجغرافي في الغرب، لكنها اختلفت بين كل من فرنسا وألمانيا وإنجلترا، وهذا الكتاب يعطي ميزة خاصة للمدرسة الألمانية رغم تورطها تاريخيا في النزعة العرقية، لكنها تشكل المدرسة الحقيقية المؤسسة للجغرافيا، وأكد الأستاذ أن راتزل قام برد الإعتبار للجغرافيا البشرية، بل قام بوضع أسسها العلمية، كما هو الشأن لفيدال دو لبلاش واضع أسس الجغرافيا البشرية بقيادة المدرسة الفرنسية. وقد تطور الفكر الجغرافي مع التوسع الإمبريالي وحاجة دول أوروبا الغربية لدراسة المستعمرات. بعد ذلك عرفت العلوم الإجتماعية تطورا ملحوظا بما فيها التاريخ والجغرافيا في أواخر ق 19 بمساهمة كل من دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية.
أما على المستوى الأكاديمي، فإن الجغرافيا لم يكن لها حضور وازن في جامعات فرنسا، لكن المدرسة الفرنسية ستصل أوجها في أواخر ق19 وبداية ق 20 بقيادة دولبلاش والذي كان له تأثيرا كبيرا في تطور الفكر الجغرافي والإعتماد على الجغرافيا كمادة أساسية في الجامعات الفرنسية، ورغم تركيز المدرسة الفرنسية على الجوانب الإجتماعية، إلا أن دولبلاش أكد أنها علم مكان وليست علم إنسان. هذا بالإضافة إلى مساهمات بول كلفال الذي إنتقد أفكار دولبلاش.
ورغم أهمية المدرسة الأمريكية تبقى رهينة بالمدارس الأروبية خاصة المدرسة الفرنسية، ومنذ النصف الثاني من القرن 19 نشأت الجغرافيا بالولايات المتحدة الأمريكية لكنها لم تدخل الجامعات التقليدية بشرق البلاد، بالمقابل أخذت مكانها بين العلوم الإنسانية في الجامعات الفتية في الغرب، خاصة بعد ظهور مدرستي ميدل ويست وبروكلي. أما الجغرافيا البريطانية، فلم تكن تهتم سوى بالمستعمرات والكشوفات الجغرافية، ولم تطأ الجامعات إلا في أواخر ق 19؛ أما الجغرافيا الروسية فقد زاوجت بين مفهومي المشهد والبيئة بناء على المدرسة الألمانية، وطورتها لتلائم بيئتها، وحسب بلفقيه، فإن الجغرافيا الروسية أخذت لون الماركسية اللينينية كغيرها من العلوم ولم تستطيع التحرك إلا في نطاق المادية الجدلية مع التحرر من الحتمية، بتبنيها لتيار يرفض أن يكون الإنسان خاضعا للطبيعة، لكن الجغرافيا السوفياتية إهتمت بالجانب الطبيعي وأهملت جوانب أخرى. أما في باقي أنحاء أروبا الشرقية فقد تطور الفكر الجغرافي متأثرا بالنزعة الألمانية والتي ألقت بظلالها على أغلب أقطار أروبا، أما باقي أقطار العالم بآسيا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا فكان متأثرا بالتبعية للغرب. لقد عاشت الجغرافيا سنوات من الإنحطاط فيما بين الحربين متأثرة بالوضع الكارثي الذي كانت عليه أوروبا، لكن سيتم الإعتماد عليها في التخطيط للمستقبل ومحاولة تفادي المشاكل خاصة تحقيق التوازن بين الجهات، والسعي لتحقيق النمو والتطور.
وستعمل أوروبا بعد الإستيقاظ من كابوس الحرب على إعادة البناء والتنظيم لكن على حساب البيئة الطبيعية حيث الثورة الصناعية الجديدة، ما أدى إلى بروز تيارات تطالب بالعدالة الإجتماعية والحفاظ على البيئة خاصة في ظل تفشي الأزمات المرتبطة بالطاقة والخوف من المستقبل في سياق التفاوتات الصارخة بين دول العالم. إلا أن الفكر الجغرافي في السبعينيات أصبح يسند على التصورات الماركسية والتي لعبت دورا هاما في توثيق الصلة بين الجغرافيا وباقي العلوم الإجتماعية، وهي مرحلة صعبة في تاريخ تطور الفكر الجغرافي الذي غلب عليه طابع تعدد المواضيع خاصة البيئية منها.  ورغم إيجابيات الثورة الكمية في الجغرافيا إلا أن المواضيع الإجتماعية تم إهمالها حتى السنوات الأخيرة من ق20. وخلص الأستاذ في كتابه إلى ضرورة الإهتمام بالموضوع رغم تعدد التيارات الموجهة للفكر الجغرافي المعاصر.
لقد حاولنا باختصار شديد أن نسلط الضوء على إحدى الكتابات المؤسسة لإبستمولوجيا الجغرافية باللغة العربية ومن زاوية أكاديمية، وحرصنا على التزام الموضوعية في ترجمة الأفكار التي يقدمها الكتاب. إن قراءة كتاب محمد بلفقيه تبقى صعبة ومعقدة لأن العلوم الإجتماعية تشكل حقلا معرفيا مضطربا بالنظر إلى منطلقاتها الفلسفية الحديثة، ولأن الكتاب عبارة عن متن تقليدي متعدد الأبعاد بحمولة فكرية جغرافية وفلسفية وأحيانا إيديولوجية وعقائدية، ولأن فهم هذا الكتاب يدفعنا إلى ضرورة الإطلاع على الجزء الثاني المعنون ب"الجغرافيا: القول فيها والقول عنها، مقومات إبستمولوجية"، بل وإلى قراءة في القراءات التي حاولت أن تضيء الكتاب من زوايا مختلفة، ويحتاج مجهودا فكريا نظريا لفك شفراته وتبسيطها للقارئ.

أحدث مقال

تساؤلات نقدية حول حقيقة سياسة إعداد التراب بالمجالات الجبلية

تساؤلات نقدية حول حقيقة سياسة إعداد التراب بالمجالات الجبلية

-الجزء الأول-

يوسف عاشي، باحث، Youssefachi1992@gmail.com

يشكل الجبل محورا حاسما في البنية الجغرافية المغربية، وتكتسي سياسة إعداد التراب بالمجالات الجبلية أهمية بالغة لارتباطها الوثيق بإشكالية التنمية الترابية، هذه الأخيرة التي ارتكز عليها الخطاب السياسي والتنموي والأكاديمي، بل وشكلت محور البرامج والمشاريع التي استهدفت هذه المجالات الهشة .وتعتبر مسألة التنمية بالمغرب إشكالا بنيويا له ارتباط حقيقي بقضايا راهنة، لأن المغرب قد راكم تأخرا ملموسا على كافة المستويات، لكنه أيضا راكم تجارب متعددة كمحاولات لمعالجة الإختلالات المجالية والفوارق الإجتماعية.
إن الكتابة حول هذا الموضوع تحكمه أسباب موضوعية تتعلق بالأساس في محاولة إثارة الإنتباه إلى أزمة المجالات الجبلية بعد انشغال أغلب الباحثين في العلوم الإجتماعية والجغرافيين بالأساس بظواهر التمدين والضواحي والإقتصاد الحضري، وأيضا من أجل فهم أعمق لأزمة الجبل البنيوية وإعادة التفكير فيه كمكون حيوي في المنظومة المجالية لبلادنا. ويحق لنا أن نتساءل ونطرح أسئلة مباشرة وواضحة: ما هي العوامل المسؤولة أو من المسؤول عن إفراغ المجالات الجبلية من سكانها؟ من المسؤول عن تقهقر أوضاع الساكنة الجبلية؟ ما مدى قدرة سياسة إعداد التراب على التخفيف من حدة الإختلالات المجالية والفوارق الإجتماعية؟
فالإقتراب من هذه التساؤلات جغرافيا يقتضي الإطلاع النظري على بعض الأبحاث والدراسات (باسكون، لازاريف، الناصيري، جنان، جيرار فاي...) والتقارير، بل ويكفي انطلاقا من ملاحظة ميدانية أن نفهم واقع المجالات الجبلية ببلادنا، فالقضايا المتعلقة بجغرافيا الجبل تبقى غنية على مستوى الأبحاث الجغرافية (مؤلفات، دراسات، أطاريح ورسائل...) حتى في أبعادها الإبستمولوجية.
تهدف هذه المقاربة التحليلية والتركيبية إلى تعميق النقاش حول سياسة إعداد التراب بالمجالات الجبلية، فنحن لا نسعى إلى إعادة إنتاج المتن التقليدي الذي حاول تفكيك ميكانيزمات الجبل، ولكن نريد أيضا أن نساهم من موقعنا ونطرح تفكيرا جديدا، ليس بتحيين الدراسات السابقة فحسب، ولكن بشكل يتقاطع معها، كأرضية خصبة توجيهية لمسار البحث الجغرافي حول المجالات الجبلية، ونحو فهم جديد لآليات التنمية الجبلية، فإذا كانت الدراسات السابقة قد اهتمت بتحليل العوامل البنيوية المرتبطة بأزمة الجبل، فإننا ندعو إلى التركيز على العوامل الحقيقية (الإختيارات السياسية، التدبير، الحكامة) وراء تهميش المجالات الجبلية.
لقد أدت التحولات العميقة التي عرفها المجتمع المغربي إلى خلق الشروط الملائمة لتسريع وثيرة كل أشكال الحركيات المجالية حتى بالمجال الجبلي الذي أصبح يعرف ديناميات (سيواقتصادية، ثقافية، بيئية...) متسارعة، فالتزايد الديموغرافي يزيد معه الضغط على الموارد الجبلية، بل وتزيد نسب الهجرة، مما ينعكس على مدننا، في إطار التحول الجغرافي من مغرب قروي مهمش إلى مغرب حضري متناقض ومفكك .أما على المستوى السوسيوثقافي والسياسي لم تعد الأرياف والجبال بشكل خاص هي المنتج الرئيسي للثروة والنخب الدينية والسياسية، بل أصبحت المدينة هي الموجهة لهذه السيرورات.
ويبدو في الأونة الأخيرة أن الخطاب السياسي والإداري المغربي قد عرف بنية مفاهيمية جديدة، التي أبانت عن عهد جديد ونوايا حقيقية للإصلاح الإداري والمؤسساتي، تمثلت في خطاب جديد يرتكز على سياسة القرب وقيم الحكامة الجيدة والديمقراطية التشاركية والتنمية، حيث تشير سياسات التنمية في العقود الأخيرة إلى النهج التشاركي، وإلى أولويات العمل على المستوى المحلي. فالبحث في هذا المستوى يدفعنا إلى إعادة طرح أسئلة جوهرية حول التنمية الترابية بالمجالات الجبلية، وذلك لكون التنمية الترابية اليوم تشكل دعامة أساسية لبلورة المشاريع الترابية. فأي محرك للدينامية الإقتصادية التي ستمكن سكان المجالات الجبلية من دخول مسلسل التنمية المندمجة والمنسجمة مع خصوصيات المجال الجبلي؟ وما هي الآليات التي ستجعل السكان فاعلين حقيقيين في التنمية؟ وكيف يمكن ترجمة وإدراج توجهات وأولويات الساكنة في إعداد برامج عمل واضحة وقابلة للتنفيذ؟  إن التنمية بمعنى الرفاه العام، هي مشكل سياسي بالأساس مرتبط بإرادة حقيقية للفاعلين الترابيين المحليين وليس بحتميات جغرافية، لذا يصعب تحقيقها في غياب تنمية سياسية حقيقية. إن دينامية المجالات الجبلية لها تأثير على المستوى البيئي من خلال التدهور المستمر للموارد الطبيعية، لذا فالبعد الجبلي له قيمة استراتيجية في مجال التنمية، لأن رهان الماء سيكون من أخطر الرهانات التي سيواجهها المغرب في العقود المقبلة. وإذا كانت الفلاحة تشكل الركيزة الإقتصادية  للساكنة الجبلية، فقد أصبحت اليوم أمام تحديات متعددة تفرضها سياقات العولمة وأخرى مرتبطة بهشاشة الموارد الطبيعية.
ويجب الإشارة إلى أن الجبال المغربية في تنوعها وديناميتها ساهمت في إعطاء المغرب مكانة متميزة في إفريقيا، ورغم ذلك فإن المجالات الجبلية لم تنل حقها من الإهتمام من الناحية التنموية، بل اقتصرت جل التدخلات التي عرفتها في التأطير الإداري والسياسي والأمني، وراكمت الجبال كل أشكال الفقر والتهميش والتأخر، ولا يتم النظر إلى هذه المجالات إلا كخزان لليد العاملة والموارد الطبيعية. ولهذا فإن مواجهة المشاكل الإقتصادية والإجتماعية كالفقر والأمية والبطالة، لا يمكن أن تتم بفعالية في غياب إطارات سياسية تضمن الحرية والمبادرة والفعالية، وتمكن من توسيع قاعدة المشاركة السياسية.
إن تخلف وتهميش المجالات الجبلية هو حصيلة للسياسة الإستعمارية ذات الخطاب المزدوج، فالمستعمر حاول خلق توازن ديموغرافي واقتصادي ليس من أجل التقليص من الإختلالات المجالية ولكن خوفا على مصالحه أمام تزايد التجمعات السكانية الكبرى. وعرفت بداية القرن الحالي الإنتقال من المغرب غير النافع (الجبال، المجالات الجافة وشبه الجافة...)  إلى المغرب العميق، وهو مجرد انتقال مفاهيمي كمدخل يفرضه السياق. وساهمت التدخلات العمومية في تكريس أزمة المناطق الجبلية، لأن استراتيجيات التنمية تعاملت مع الجبال كأنها كتلة متجانسة بخصوصيات سوسيومجالية متشابهة.
وتجدر الإشارة إلى أن سياسة إعداد التراب تتأرجح اليوم بين الخطابين السياسي والأكاديمي، وبالرغم من تفوق الأول عن الثاني لاعتبارات لا يمكن ذكرها الآن وهنا، فهذه السياسة أصبحت مؤطرة مؤسساتيا وقانونيا بوثائق رسمية، وبالمقابل نجد تراثا وتراكما وإنتاجا معرفيا أكاديميا لكنه لا يؤخذ بعين الإعتبار أثناء بلورة التصورات أو التدخلات، ونتساءل إذن عن جدوى هذه الأبحاث التي تستهلك سنوات من عمر الباحث. ونشير إلى أن البحث الجغرافي اليوم أصبح يسائل الجميع حول قدرة الجبل على استيعاب السكان وضمان الأمن الإجتماعي والإقتصادي وتوفير البيئة الملائمة في ظل تزايد المخاطر الطبيعية (الجفاف، الفيضانات...)، وينبه الجميع إلى وضعية الموارد الطبيعية والمخاطر التي تهدد استقرار التوازنات ومستقبل الرساتيق والتراث الجبلي وفضاءات الترفيه ومآل الساكنة الجبلية ومصير الثقافة القروية والجبلية ورمزيته والمحيط البيئي ومستقبل التنمية المستدامة. فأزمة الجبل في اعتقادنا هي أزمة تدبير مجالي لها ارتباط بالجوانب القانونية والمؤسساتية وبطبيعة القرار المتخذ في حق الجبل، لأن البرامج التنموية التي استهدفت المجالات الجبلية ليست لها مرجعية واضحة وليس لها إطار محكم بالرغم من الدراسات والأبحاث التي حاولت تأطيرها ضمن سياقات معينة. إضافة إلى أزمة الثقة المستمرة بين السكان أي المواطن والمؤسسات، لأن تمثلات السكان وثقافتهم تتعارض أحيانا مع طبيعة المؤسسات والمصالح الإدارية؛ صحيح أن الجماعات الترابية تعمل في إطار تقديم خدمات القرب على بلورة برامج العمل بناء على تشخيص تشاركي ومنهجي، لكن يبقى التساؤل حول طبيعة هذه البرامج/الوثائق ومرجعيتها ومحتوياتها ومدى قابلية تنفيذها، خاصة وأن هذه البرامج يساهم في إعدادها مكاتب الدراسات التي تركز على الجوانب التقنية لكن يغيب فيها التحليل الترابي (المقاربات المجالية). فسيرورة تنمية المجالات الجبلية تصطدم بضعف الموارد المالية الذاتية لدى الجماعات الترابية مع سوء تدبيرها، وكذلك بعدم كفاءة المنتخبين وتضارب المصالح مما يعقد من سيرورة تصور ووضع وتنفيذ وتتبع برامج عمل التنمية؛ وفي هذا الإطار نستغرب حقا لعدم وجود قانون يحدد شروط ترشح المنتخبين، لأننا اليوم أمام فئة من المنتخبين الأميين لا يحملون أية شهادة ولا يفقهون شيئا عن السياسة والتدبير بل وهناك من لا يقرأ ولا يكتب في زمن إنتقلت فيه الأمية إلى مستوى استعمال التكنولوجيات الحديثة.
ونريد أن نؤكد على أن الجبل اليوم ليس بحاجة إلى مشاورات ودراسات وليس بحاجة إلى مفاهيم (تسويق، حكامة، ذكاء...) بل الجبل في حاجة إلى تدخل آني مستعجل؛ فنحن لا ننتظر تصحيح الإختلالات لأنه اختيار غير ممكن، ولكن يمكن التقليص منها وتداركها بتدرج. بل ويحق لنا أن نستغرب عندما نصادف سياسة إعلامية تسعى إلى تلميع صورة الجبل، لأنه لا يمكن تحقيق تسويق ترابي بناء على حقائق غير واضحة. فالعجز (التأخر) الحاصل على مستوى المجالات الجبلية  هو عجز بنيوي لا يمكن تداركه إلا بإصلاحات هيكلية بعيدا عن الإملاءات الخارجية؛ وفي سياق تطبعه العولمة وتحرير الأسواق يمكن لإعداد التراب (بمفهومه الجغرافي التقني والتحليلي وليس السياسي) أن يشكل منطلقا لتصور سياسة حقيقية للبحث عن أشكال ملائمة للتكيف مع الواقع، ولإرساء وتقوية وتعميق الوحدة الوطنية، لأن التراب الوطني هو تراكم ونتاج تاريخي واجتماعي، فالتراب هنا هو المجال والإنسان والتاريخ.
إن إشكالية التنمية بالمجالات الجبلية تتمثل في تعدد المتدخلين (الجماعة، الإقليم، الجهة، مندوبيات ومصالح المديريات اللاممركزة، وكالات...) المنتمين إلى قطاعات مختلفة وفي ضعف التنسيق بينهم،
فالأمر يستدعي ضرورة اعتماد مقاربة مجالية تنهج سياسة جبلية لبلورة مشروع ترابي ينطلق من توجهات التصاميم الوطنية والجهوية لإعداد التراب، ويتقاطع مع برامج عمل الجهة والإقليم والجماعة وكذلك مع الإستراتيجيات التنموية الكبرى.
مؤسساتيا فقانون الجهة 14-111 قد ركز من خلال المادة 91 على ضرورة تنمية المناطق الجبلية والنهوض بوضعيتها السوسيواقتصادية والبيئية، ونفس المعطى أفرزته القوانين المتعلقة بالأقاليم 14-112 والجماعات 14-113 التي تنص على أن الجماعات مدعوة للمساهمة في تنمية المجالات الجبلية.  لكننا مازلنا ننتظر وضع قانون خاص يهتم بالشؤون الجبلية، ووضع استراتيجيات لحماية الموارد الترابية للجبل (المجال الغابوي، التربية، الماء..)، ووضع تصاميم خاصة بالمدن الجبلية مع ضرورة اعتماد البعد الجهوي (الجهوية المتقدمة) المرتكز على اللامركزية واللاتمركز في إنجاز المشاريع مع التركيز على المجالات المهمشة والهامشية باعتبار الجهة إطارا مؤسساتيا وفضاء ترابيا يعتمد سياسة تعاقدية لبلورة التصورات المجالية للتنمية الترابية.
إن تعقد الديناميات التي تعرفها المجالات الجبلية وتعدد التحديات في ظل غياب رؤية واضحة تستشرف المستقبل وغياب مشاريع ترابية حقيقية تحترم الخصوصيات المحلية للمجال الجبلي، أصبح ضروريا نهج سياسات مجالية ترتكز على المشاريع الترابية والإعتماد على آليات تخطيطية محكمة وتدبير معقلن للمجال ينبني على مبادئ الحكامة الجيدة والديموقراطية التشاركية، لأن إشكالية التنمية الترابية بالمجالات الجبلية ترتبط بآلية الحكامة الترابية أكثر منه بمسألة الموارد وبمدى التقائية وانسجام السياسيات العمومية وأيضا بدور الفاعلين الترابيين ومدى انخراطهم في الفعل التنموي، وذلك لتوفير إطار مجالي ذو قاعدة اقتصادية صلبة وفضاء اجتماعي وبيئي ملائم، قادر على تحقيق تنمية ترابية متوازنة ومندمجة ومستدامة توافق بين التوزيع المجالي للسكان والأنشطة الإقتصادية، وتوافق بين الحاجيات الحالية وتراعي حاجيات الأجيال المستقبلية من جهة أخرى. كما أنه لا يمكن النهوض بتنمية الجماعات الترابية الجبلية (جغرافيا) خارج سياسة إعداد التراب الوطني، فهذه الوضعية تقتضي تكييف التوجه التنموي مع معطيات الواقع الطبيعية والبشرية، ومع الإمكانات المادية واللامادية التي يوفرها المجال الترابي، وذلك من أجل تحقيق أهداف التهيئة وفق رؤية إستراتيجية مؤسسة على مقاربات التنمية الترابية المستدامة، وهو إطار لإعادة ترتيب علاقة الساكنة المحلية (المجتمع المدني) بالفاعلين الترابيين في ظل ديمقراطية تشاركية، قادرة على الإسهام بتصورات علمية وعملية لبلورة استراتيجيات حقيقية لتدبير المجال بشكل معقلن، للتقليص من اختلالاته وتبايناته وصيانة موارده الترابية والرفع من جاذبيته وتنافسيته، وذلك من خلال مجموعة من القنوات المؤسساتية والقانونية، التي يمكن أن تمنح الفاعل الكفايات المناسبة للتوافق على أرضية مشتركة لعملية الإعداد، وأيضا لإعطاء الهوية للتراب وجعله رئدا ونموذجا تنمويا، لأن أزمة المجالات الجبلية تبقى رهينة بمدى الإعتماد على مقاربات تنموية شمولية ومتعددة الأبعاد تنطلق من عمق المجال وتراعي خصوصياته المحلية.

المراجع:
التحولات الإجتماعية والثقافية في البوادي المغربية، تنسيق: المختار الهراس وادريس بنسعيد، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 102.
المشروع الترابي، أداة استراتيجية للتنمية المحلية: حالة جماعة إغزران الجبلية، تنسيق محمد البقصي ومحمد الزرهوني، منشورات الجماعة القروية لإغزران رقم 5، 2015.
الناصري محمد (2003) ، الجبال المغربیة: مركزیتها- هامشيتها- تنميتها، منشورات وزارة الثقافة، الرباط.


FAY, G. (2015), Collectivités, Territoires, et Mal développement dans les compagnes marocaines, Publications de al faculté des lettres et des sciences humaines, Rabat Série : Essais et recherche, n°73.
JENNAN, L. (1998), Le Moyen Atlas Central et ses Bordures : Mutations Récentes et dynamiques rurales, Thèse de Doctorat d’Etat en Géographie, Unv Toulouse.
LAZAREV, G.  Ruralité et Changement Social, Etudes Sociologique, Publication de la faculté des lettres et des sciences humaines, Rabat, Série : Essais et Etudes n°64, 2014.
MAURER, G. (1996) L'homme et les montagnes atlasiques au Maghreb. In: Annales de Géographie, t. 105, n°587.
NACIRI, N. (1994), Centralité et Marginalité des montagnes au Maroc : Actes de l’atelier sur le développement rural et la protection de l’environnement rural de montagne (Rif, Haut, Atlas) Rabat, 3 et 4 février.
أحدث مقال

الممارسة الميدانية في الجغرافية القروية بين الصعوبات الذاتية والشروط الموضوعية

تتمة لسلسلة المقالات التي يقوم بإنجاها الطالب الباحث: يوسف العاشي والتي تعالج مواضيع هامة يطرح من خلالها  مجموعة من الاشكاليات التي تهم البحث العلمي من منظور جغرافي، محاولا بذلك اثراء النقاش واثارة مختلف الجوانب المهيكلة للبحث الجغرافي بصفة عامة.

يوسف عاشي: طالب باحث، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مكناس.
youssefachi1992@gmail.com

نهدف من وراء تحرير هذا المقال التركيبي إلى تقديم بعض العناصر الأولية حول البحث الميداني الجغرافي في العالم القروي الذي يشكل واحدا من الأولويات العلمية التي نقر بأهميتها في حقل الجغرافيا، فبدون بحث ميداني لا يمكن الحديث عن معرفة جغرافية في ظل التحولات المادية والرمزية والثقافية التي تعرفها الأرياف المغربية. فمقاربة موضوع الصعوبات في تجلياتها وأبعادها المختلفة وبعض الطرق لتجاوزها ما هي إلا محاولة للإحاطة بالجوانب الإشكالية للممارسة الميدانية في الجغرافية القروية من منطلق موضوعي يؤمن بأن الممارسة الميدانية هي سيرورة عملية واجتماعية بالأساس. فعلى المستوى المنهجي إعتمدنا في مقاربة هذا المقال على أعمال بيبليوغرافية للباحثين في الجغرافيا القروية وأيضا على بعض تجارب الأساتذة والطلبة الباحثين. فالدراسة النقدية لسيرورات البحث الميداني في حقل الجغرافيا تكتسي أهمية قصوى ليس فقط للباحثين الجامعيين، ولكن أيضا لدى مختلف المتدخلين والفاعلين في الشأن الأكاديمي والسياسي.
هذا المدخل يقتضي طرح تساؤلات نقدية من قبيل: لماذا الحديث عن الممارسة الميدانية؟ وما هي أبعاد العلاقة بين الممارسة الميدانية والمعرفة الجغرافية؟ وما مدى ملاءمة المناهج والتقنيات والأدوات المعتمدة في الأبحاث الميدانية للبنيات والسياقات المجالية المحلية؟ وكيف يمكن تحسين شروط الممارسة الميدانية في ظل الديناميات المتسارعة للأرياف المغربية؟
يعتبر البحث الميداني الجغرافي في العالم القروي إشكال راهن له ارتباط حقيقي بمسألة البحث العلمي بشكل عام، ويكتسي أهمية كبرى لدى الباحثين في حقول العلوم الإنسانية والإجتماعية. ولا شك أن الباحث الجغرافي اليوم يواجه مشاكل متعددة أثناء العمل الميداني، بعضها يعود إلى شخصية الباحث وأخرى ترتبط بسياقات البحث وطقوسه. ويشكل البحث الميداني مرتكزا أساسيا للكشف عن حقيقة المجال، وارتبط تطوره في العالم القروي بمجموعة من الأدوات والتقنيات. لهذا نعتقد بأن البحث الميداني في العالم القروي يعتبر من الإهتمامات المركزية في البحث الجغرافي وذلك لسببين أساسيين على الأقل:
أولا لكون البحث الميداني يشكل عنصرا أساسيا ضمن أدوات البحث الجغرافي إلى جانب العمل البيبليوغرافي والخرائطي.
وثانيا لأن طبيعة المواضيع التي يهتم بها حقل الجغرافيا تستدعي القيام بعمل ميداني دقيق من أجل الوصول إلى النتائج المرجوة، وإعطاء مصداقية أكثر للبحث.
إن صعوبة العمل الميداني بشكل عام تكمن في ارتباطه بسياقات متداخلة سياسية وإدارية وثقافية وأكاديمية محددة، ولكن أيضا بطبيعة التأطير من طرف المؤسسات الجامعية المشرفة عليه وبشخصية الباحث وقدرته على تحمل المتاعب، لأن الباحث خاصة الجغرافي هو شخص مزعج وعنصر غير مرغوب فيه سواء بالنسبة للسلطات أو بالنسبة للمستجوب، لذا يجب الحذر منه. فالجغرافي ليست غايات سياسية ولا يسعى وراء أية مصلحة أو إلى تعرية واقع معين أو الكشف عن ألغاز معقدة، بل يسعى وراء معطيات بسيطة وحقائق تخص المجال في أبعاده التنظيمية والعلائقية من منظور مؤسساتي أكاديمي لمحاولة تفسير وفهم أبعاد وفلسفة تنظيم المجال وعلاقة هذا الأخير بالإنسان.
يسعى الباحث من وراء البحث الميداني إلى تعزيز الطرح النظري الذي يدافع عنه وإعطاء المصداقية لعمله وإضفاء نوع من المشروعية على ممارسته الأكاديمية، فالميدان هو منبع الحقائق يسعى من خلاله الباحث إلى دعم معطياته وتثبيتها وتأكيدها، أو إلى جمع المعطيات التي لم يجدها في المراجع البيبليوغرافية أو لدى المصالح الإدارية المختصة، وغالبا ما يجد الباحث نفسه أمام تضارب في الأرقام الإحصائية المحصل عليها من طرف مختلف الإدارات، وأحيانا صعوبة الحصول على كل المعطيات الحديثة حتى على مستوى بعض المواقع الرسمية في الأنترنيت، وهنا يواجه الباحث مشاكل في التعامل مع واقع البحث الميداني مما يجعله في احتكاك متواصل مع السلطات. لذا يتجه الباحث إلى إجراء المقابلات وملء الإستمارات لتكوين الصورة الكاملة عن الظواهر المدروسة.
إن أول مشكل يواجهه الباحث في المجال القروي أثناء ممارسته الميدانية هو الصورة النمطية عن المجال والإنسان القروي وطبيعة الأنشطة، ويجب أن نؤكد على أن هذه الإشكالية تسائل الباحث الجغرافي بالخصوص في مستويين أساسيين، أولا على المستوى المفاهيمي وهنا يشير الأستاذ جنان إلى ضرورة التمييز بين ما هو فلاحي وما هو قروي، وبين مفهوم العالم الفلاحي والعالم القروي: فكل فلاح يقطن بالبادية قروي، وليس كل قروي بفلاح. أما المستوى الثاني فيتعلق بمدى صلاحية وملاءمة المناهج وأدوات البحث والتقنيات المتعددة المثقلة بحمولة غربية في مقاربة الظواهر الجغرافية بأريافنا ذات الخصوصيات المعقدة، وبالتالي ضرورة تجديد الأدوات من أجل فهم أعمق للإشكاليات الجديدة التي تطرحها الأرياف اليوم. إن الممارسة الميدانية تقترن بعراقيل منهجية معقدة، فالمتتبع لتاريخ تطور البحث الجغرافي بالمغرب سيلاحظ بأن العمل الميداني شكل وما يزال إحدى ركائز الممارسة الجغرافية، لكن تقنيات البحث الميداني في العالم القروي، وبحكم مرجعياتها الغربية ترتكز على أسس مادية لا تلائم الواقع المجالي لبلادنا، وقد تؤدي إلى قطيعة بين الباحث والظواهر المدروسة. ونريد أن نؤكد على أطروحة أساسية مفادها أن التحولات العميقة التي عرفتها الأرياف المغربية سلبت الباحث سلطته المعرفية، إذ لم يعد مصدرا للمعلومات، بمعنى أنه لم يعد مرجعا للمعلومات أو سلطة للمعرفة، وهذا يجعلنا نتساءل حول المكانة والرمزية التي يتمتع بها الباحث أكاديميا ومؤسساتيا ولكن أيضا داخل المنظومة الإجتماعية ككل.
أما على المستوى النظري، فإن الباحث يواجه صعوبة في ملاءمة شروط الممارسة الميدانية لطبيعة الموضوع، وصعوبة الإحاطة بكل العناصر الأساسية للإشكالية في الميدان إضافة إلى صعوبة الإلتزام بالمناهج المتبعة، وذلك لعدم ملاءمة منهج واحد لطبيعة الموضوع، وغالبا ما يقتضي هذا الأخيرأكثر من مقاربة، ليس من الزاوية الجغرافية فقط، ولكن يفرض أيضا تحليلا سوسيوتاريخيا مركبا ومتعدد الأبعاد.  لأن التحليل الجغرافي للمعطيات خاصة فيما يخص المقارنة بين المجال المدروس والمستويات المجالية الأخرى يقتضي التوفر على معطيات شاملة.
أما الصعوبات المتعلقة بالتقنيات والأدوات المستعملة، فالملاحظ هو أن التوجه الحالي أكثر استعمالا للطرق الكمية والإحصائية، فتبني المعطى الرقمي يعد تجاوزا للمقاربات الوصفية التقليدية، وهذا راجع إلى طبيعة المواضيع الجغرافية، رغم أن البحث الجغرافي المعاصر يسلك اليوم نحو المزج بين المنهجين الكمي والكيفي، لأن الباحث لا يستطيع رصد تمثلات الأفراد للمجال إلا باستعمال المنهج الكيفي لرصد الجوانب الرمزية والثقافية. لكن يبقى التساؤل مطروحا حول مدى ملاءمة هذه الآليات لسياقنا ولواقعنا. فالإستمارة كأداة ووثيقة يجب أن تضم أسئلة مركزة وتراعي تدرجها وتسلسلها المنطقي، لأن الباحث ملزم بترجمة الأسئلة المعقدة إلى خطاب بسيط وواضح لدى المبحوث، لكن المشكل الحقيقي يتعلق بطبيعة الأسئلة وكيفية صياغتها ومدى تفاعل المبحوث معها، لأن الباحث يتعامل مع عينة محددة، وهذا ما يقتضي الحيطة والحذر في التعامل مع المعطيات المحصل عليها من الميدان قبل تعميمها على المجال المدروس.
إن تفادي صعوبات البحث الميداني يرتبط أولا بضرورة التنسيق الإداري مع المؤسسة المشرفة على البحث ومع المصالح الإدارية ذات السيادة في المجال (العمالة، القيادة، الباشوية، الجماعة) لتسوية الوضعية القانونية للباحث. وذلك لتمكينه من الحصول على الوثائق التي تخول له ممارسة العمل الميداني لتفادي الإصطدام بالرفض من طرف السلطات المحليه.
لكن العوائق المعقدة ترتبط أساسا بتمثلات الباحث، فالمجال الريفي حسب الباحث هو مجال مهمش ومتخلف يفتقر إلى التجهيزات الأساسية، يضم ساكنة من الفلاحين بنمط عيش تقليدي، رغم أن الإنسان القروي يدرك جيدا خبايا المجال، بل ويشكل هذا الأخير نتاجا لهندسة محكمة ومنظمة للمجموعة البشرية التي تسهر على تدبيره. لأن الديناميات المتسارعة الثقافية والسوسيواقتصادية جعلت الأرياف تضم تشكيلات اجتماعية متنوعة، تمارس أنشطة فلاحية وغير فلاحية، فهذه الصعوبات المرتبطة بشخصية الباحث تقتضي التخلص من التمثلات التي راكمها عن الميدان أي أن يتخلص من الأفكار الجاهزة بتعبير دوركايم لأنها تؤثر في تفسير الواقع رغم أن ذاتية الباحث أحيانا تساعد على فهم وتأويل الواقع. مما يعني أن الباحث مطالب بمراكمة بعض المعرفة النظرية حول مجال الدراسة لكشف بعض الجوانب عن الحياة الإجتماعية والإقتصادية للساكنة ولفهم عادات السكان وثقافتهم ونمط عيشهم، وذلك لتفادي الإصطدامات الرمزية والثقافية والهوياتية. فرغم انفتاح الأرياف إلا أن أمية المبحوثين تزيد من تأزيم العلاقة بين الباحث والمبحوثين، لأن عملية الكتابة وملء الإستمارة باعتبارها أداة من أدوات البحث الميداني تتخذ طابعا سلطويا بالنظر إلى الصراع التاريخي بين المخزن والقبائل، مما يجعل المبحوث حذرا أتناء تصريحاته، لذا  فعلى الباحث أن يكون أكثر دراية بالنفسية القروية. وفيما يخص الصعوبات التواصلية فهي مرتبطة بثقافة الباحث ولغته، خصوصا للباحث الغير المنتمي للمجال، الذي يواجه صعوبات حقيقية في التواصل مع المستجوبين الذين يجدون في نبرته نوعا من الغرابة، خاصة في مجالات محافظة لا يفهم سكانها سوى لهجتهم المحلية. في هذه الحالات يجب على الباحث أن يهتم بمظهره ولهجته، فهذين الأخيرين قد يعيقان سيرورة البحث الميداني خاصة بالمناطق الهامشية. فالباحث مطالب بالتظاهر بانتمائه للمجال، وأن يتخلى عن إيديولوجياته المرتبطة أساسا بالمرجعية الفلسفية للمنظرين المؤثرين في شخصيته. وأثناء تواصله واستجوابه للأشخاص فمن المفروض أن يتجنب استعمال لغة رسمية معينة، بل وعلى الباحث أن يوضح لهجته (اللهجة المحلية) ليقترب من عمق المجال ويكسب عطف المستجوب؛ ولكن عليه أيضا تجنب المظهر الرسمي كي لا يبدو مخيفا أو غريبا بل وسلطويا في بعض الأحيان كي لا يخيف المبحوثين، لذلك يجب عليه اختيار لباس يلائم خصوصيات المجال الطبيعية والبشرية أي السوسيوثقافية والبيئية.                             .
وهناك صعوبات نرجعها أساسا إلى خصائص المجال الطبيعية (تضاريس، مناخ...) خاصة في حالة شساعة مجال الدراسة مما يمنع من الوصول إلى كل أجزاء المجال، حيث يصعب على الباحث التنقل والوصول إلى بعض الدواوير المعزولة، خاصة في فصل الشتاء، وهو ما يقتضي على الباحث أخذ عامل الزمن بعين الإعتبار واختيار الوقت الملائم للقيام بالعمل الميداني. لذلك فإن النزول إلى الميدان يتطلب عدة ووسائل لوجيستيكية (خريطة طبوغرافية، نظام تحديد المواقع، الهاتف...) لضمان سلامة الباحث من جهة وتسهيل مأموريته في الميدان من جهة أخرى.

يتضح إذن أن مقاربة موضوع الصعوبات المتعلقة بالبحث الميداني في حقل الجغرافيا يبقى صعبا ومعقدا، ذاتية الباحث تبقى مؤثرة في سيرورة الممارسة الميدانية، فالباحث اليوم يتأثر بمناهج متعددة، خاصة المناهج الحديثة في العلوم الإجتماعية المرتكزة على المفهوم المادي بعيدا عن منظومة القيم والممارسات، وفي هذا الصدد يقول محمد بلفقيه "قضية الوجود الإنساني ضاعت في متاهات الفلسفة، وضلال الإيديولوجيات". ولأن سياقات وطقوس البحث الميداني تختلف من مجال لآخر ومن باحث لآخر بالنظر إلى اختلاف المناهج والتقنيات المعتمدة، ولأن الباحث لازال يعتقد بأن النتائج والخلاصات هي الأساس، لكونها هي التي تناقش وتنشر، لكن الطريقة التي تم الحصول بها على النتائج تبقى مجهولة. عموما فالبحث الميداني يشكل محورا معرفيا لطرح القضايا الراهنة المرتبطة بالإشكاليات الجغرافية حول الديناميات التي يشهدها المجال الريفي، وحول مسلسل التنمية القروية. لذا فمن الضروري تطوير البحث الميداني ممارسة وموضوعا ومؤسساتيا أولا من طرف الباحثين الجامعيين على الأقل في الجوانب المنهجية والتنظيرية والمفاهيمية، وثانيا من طرف المصالح الإدارية لمساعدة الباحث ولتسهيل مهمته.

المراجع:

ž          إديل عمرو (1995) ، البحث الميداني في الجغرافيا القروية (حدوده و إمكانياته) ، منشور بمجلة بحوث ، العدد 6، كلية الآداب ظهر المهراز فاس.
ž          جنان لحسن وعمرو إديل (1987) ، تحولات البوادي المغربية مقاربة منهجية، ورد في مجلة مكناسة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مكناس العدد 2.
ž          جنان لحسن ،(2010)، العالم القروي في البحث الجغرافي، ورد في: مجلة دفاتر جغرافية، العدد 7، منشورات كلية الآداب، ظهر المهراز، فاس.
ž          مئوية الجغرافيا المغربية، حضور متواصل في التنمية الترابية، تنسيق محمد الزرهوني، منشورات الملتقى الثقافي لمدينة صفرو، عدد خاص، أبريل، 2016.
ž          مجلة بيت الحكمة، العدد 3، السنة الأولى، أكتوبر 1983.

BODIGUEL. M, le rural en question, l’Harmattan, Paris, 1986.
GILLARDOT. P, Géographie rurale. Ellipses, Paris, 1997.
LACOSTE – DUJARDIN. C : la relation d’enquête. Hérodote n°8, 1977.
LAZAREV, G.  Ruralité et Changement Social, Etudes Sociologique, Publication de FLSH, Rabat, Série : Essais et Etudes n°64, 2014.
NACIRI. M, Déterminants et contextes de la production du savoir géographique au Maroc, de la fin de 19 au milieu des 20 siècle, in : la recherche géographique sur le maroc. FLSH. Rabat. Série Colloque et Séminaire n°12. 1989.
PASCON. P, ENNAJI. M. les paysans sans terre. Col. Connaissance Sociale. Les éditions Toubkal. Casablanca. 1986.
KAYSER. B : Sans enquête, pas de droit à la parole. Hérodote n°9,1978.