يأتي هذا المقال في إطار انفتاح المدونة على مختلف المهتمين (أساتذة، طلبة باحثين، ...) بنشر مقالاتهم العلمية، وتشجيعا لهم على الإستمرار وكذلك مشاركة انتاجاتهم على أوسع نطاق ممكن، ويجب الاشارة أن جميع الأراء تعبر عن أصحابها، ويبقى دورنا تعميم وجهات النظر و خلق نقاش مستفيض.... إدارة المدونة.
أسئلة
حول سياقات تطور البحث الجغرافي بالمغرب
يوسف
عاشي: طالب باحث، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مكناس.
youssefachi1992@gmail.com
يثير
موضوع تطور البحث الجغرافي حول المغرب نقاشا وجدلا واسعا لدى الباحثين الأكاديميين
المتخصصين ولكن أيضا لدى مختلف المهتمين بالعلوم الإنسانية والإجتماعية. فالخوض في هذا الموضوع يبقى صعبا ومعقدا، حرصا منا على
التزام الحيطة والموضوعية في التعامل مع هكذا المواضيع، ويرجع اهتمامنا به إلى
أسباب منطقية مرتبطة أساسا بسياقات متعددة، ليس فقط من زاوية التخصص، ولكنه تساؤل مشروع، فالتساؤل حول وضعية
علم الجغرافيا ليس تساؤلا بيداغوجيا باعتباره علما معرفيا
يدرس في المدرجات ولكنه
تساؤل منطقي ومشروع لكونه فكر
وممارسة ذات أبعاد متعددة. يتساءل هذا المقال حول المضمون المعرفي الكولونيالي
انطلاقا من الدراسات النقدية التي حاولت تأطير هذا الخطاب وتحديد أبعاده، ورصد
سياقه ومحدداته وشروطه.
فهو يهدف بالأساس إلى صياغة
وإعادة طرح أسئلة قد تبدو بديهية لكنها جذرية وبنيوية، ولكن أيضا لفتح النقاش حول
تطور الفكر الجغرافي انطلاقا من منظور نقدي.
لماذا
الحديث عن الخطاب الكولونيالي اليوم؟ كيف ساهم المشروع الإستعماري في استنبات
البحث العلمي والجغرافي بالخصوص؟ ما هي الشرعية المعرفية للخطاب الكولونيالي حول
المغرب؟ هل استطاعت الجغرافيا المغربية أن تتجاوز
المضمون المعرفي الكولونيالي؟ وهل يحق لنا الحديث عن مدرسة جغرافية بخصوصيات
مغربية؟ ما مدى تخلص البحث الجغرافي من تأثير التوجه
الأجنبي؟ هل للجغرافي
المغربي صورة خاصة يتميز بها في
المشهد العلمي والثقافي والسياسي؟
هل نتحدث عن علم الجغرافيا أم
عن العلوم الجغرافية؟
لا
أفهم ما معنى أن يهاجم بعض المتطفلين الحقل المعرفي للجغرافيا، وأن يشكك في
حقيقتها العلمية وقدرتها التكوينية والبيداغوجية. طبعا فهو منظور شوفيني وطرح ضيق غير منطقي
ولا صلة له بالموضوعية، ولكنه أيضا جهل بحقيقة التاريخ والبحث العلمي.
ارتبط
تطور البحث العلمي في المغرب بما فيه البحث
الجغرافي بالفترة الاستعمارية، بعدما ساهمت المعرفة بطبيعة المجتمع والدولة في
تسهيل احتلاله وتوقيع معاهدة الحماية الفرنسية 1912. لكن ذلك لم يكن سهل المنال،
بـل بـدأ «بالـغـزو السلمي» و«التغلغل المعرفي» للبنى المغربية بعد احتلال الجزائر
سنة 1830 وما ترتب عن ذلك من تداعيات تمثلت في هزيمة المغرب في معركة إيسلي سنة
1844، وانفتاح الباب منذئذ على مصراعيه أمام البعثات العلمية الاستكشافية الفرنسية
لتحقيق هدف «احتلال المغرب بأقل التكاليف الممكنة» لذلك اقتحمت الأدبيات الفرنسية
البلد بغرض فهم
ذهنية المجال وتركيبته الإثنية والدينية. واتخذت هذه الأعمال بعدا مؤسساتيا
منذ سنة 1904 عندما أسست البعثة العلمية للمغرب، لتتضح أكثر العلاقة بين المعرفة
والأجندة الاستعمارية، حيث ظهرت كتابات جمعت بين الغرائبية والبحث الممنهج، وركزت
على تبيان أن المغرب يسبح في فوضى مزمنة، وبذلك تحولت البعثة العلمية إلى مختبر من
أجل دراسة البنى المغربية وتفكيكها، كما شكلت مركزا لتكوين رجالات الحماية
كمراقبين مدنيين.
وفي هذا السياق يخبرنا عبد الله
العروي على أن "من سوء حظ المغرب أن تاريخه كتبه لمدة طويلة هواة بلا تأهيل:
جغرافيون أصحاب أفكار براقة، موظفون يدعون العلم، وعسكريون يتظاهرون بالثقافة،
ومؤرخو الفن يتجاوزون اختصاصهم، وبكيفية أعم مؤرخون بلا تكوين لغوي يحيل بعضهم على الاخر، يعتمد هؤلاء على أولئك،
وتحبك خيوط مؤامرة لتفرض الافتراضات البعيدة كحقائق مقررة". تحيلنا هذه
الشهادة إلى مسألة أساسية في تاريخ المغرب، وهي كثرة تأليفات غير متخصصين اهتموا
بالمغرب، بشكل أو بآخر. ومن المعلوم أن المغرب أقحم في الأدب الفرنسي عندما أصبح
ذا أهمية سياسية واستراتيجية بالنسبة إلى فرنسا نتيجة الأحداث والتداعيات التي
عرفها القرن التاسع عشر،
وسرعت وضع المغرب تحت مجهر
الأبحاث الجغرافية والسوسيولوجية والأنثروبولوجية لمعرفة طبيعة تركيبته السياسية
والاجتماعية، وتكويناته القبلية وعلاقاتها بالمخزن والزوايا. وكان
الدافع والغرض من ذلك تسهيل احتلال المغرب بأقل تكلفة ممكنة، عكس الجزائر التي كان
العامل العسكري هو المحدد في احتلالها، بينما اختلفت الوضعية في المغرب، إذ نجد أن
العاملَين الدبلوماسي والعلمي هما المحددان لعملية الغزو. لقد دفعت رغبة
فرنسا في معرفة و كشف أسرار المغرب بهدف السيطرة عليه الى تكثيف محاولاتها
الاستكشافية، ومع نهاية القرن
19 رفعت الادارة الاستعمارية في باريس أي الميتروبول
وفي الجزائر شعار "المغرب لنا"، وظل المغرب إلى
حدود بداية القرن 20 موضوع صراع بين فرنسيي المتروبول وفرنسيي مدرسة الجزائر، صراع يعكس تضارب المصالح بين الجماعات
السياسية والبيروقراطية والإقتصادية المتنافسة، وانطلاقا من سنة 1903 ظهرت سياستان
لتطويق البلاد :
الأولى مرتبطة بسياسة
الغزو والتوغل عبر مراحل انطلاقا من الجزائر والسياسة
الثانية هي ارسال بعثات فرنسية الى مدينة فاس قصد استمالة السلطان مع تطوير
البعثات العلمية ومضاعفة العلاقات التجارية. ولهذا فقد كان
الصراع داخل كواليس الادارة الفرنسية محتدما حول فكرتين اساسيتين: تتمثل الأولى في
الاحتلال باستعمال القوة، وتنظيم استعمار المغرب. بينما تتمثل الثانية
في التأثير في المغرب فكريا، ثقافيا، اقتصاديا، واقامة ادارة مدنية، من خلال
الاعتزاز بالانتماء الى ثورة 1789 وقيمها في المساواة والحرية وحقوق الانسان. في
البداية انتصرت مدرسة الجزائر
بفعل توفرها على باحثين متمرسين، وسيبدأ المشروع الإستعماري بانخراط مجموعة
الباحثين كأوغست مولييراس، إدموند دوتي، شارل دوفوكو، ألفريد لوشاتوليي، جورج
سالومون، جورج هاردي،
لويس جونتي، ماركو ديسيكونزاك، جون سيليريي، جون دريش، أنطوان لانكين،
هنري دوكاستري، ديلاي تيوفيل جون...فانخراط هؤلاء الباحثين واكبه تأسيس لمجموعة من المؤسسات المهيكلة للبحث العلمي والجغرافي أهمها البعثة العلمية المغربية، مؤسسة هنري دوكاستري،
معهد باستور بالرباط، المدرسة العليا للغة العربية واللهجات البربرية، معهد
الدراسات العليا المغربية، المعهد العلمي الشريف، مصلحة التاريخ القديم، الجمعية
المغربية للجغرافيا، جمعية العلوم الطبيعية... ساهمت هذه الصراعات في إنتاج تراكم
معرفي "الأرشيفات المغربية، الأرشيفات البربرية، العالم الإسلامي، مدن وقبائل
المغرب، المصادر المجهولة لتاريخ المغرب، هيسبيريس، مجلة جمعية جغرافية المغرب...". يعتبر البحث الجغرافي الذي عملت سلطات الحماية على استنباته في المغرب
ليس بعملية تقنية بسيطة، بل
منظومة تم التعامل معها
بالاعتماد على التخطيط والتنظيم والتفعيل في ظرفية افتقدت فيها البلاد للاستقرار
السياسي اللازم لاشتغال الفكري والانتاج العلميين. اشتغلت الادارة الاستعمارية في هذا الورش في ظروف استثنائية، اذ
كانت الحرب مشتعلة داخل المغرب وخارجه، حيث عاد المقيم العام ليوطي لفرنسا لخوض
غمار الحرب بعد ترقيته لمرتبة وزير حرب في أواخر سنة 1916، واستمر التأسيس رغم
الأوضاع السياسية المضطربة حيث عملت الادارة الفرنسية على توفير كل متطلبات
التأسيس.
احتل
المغرب مكانة مهمة في الأدبيات الكولونيالية الأجنبية خاصة الفرنسية منها، والتي
خدمت ودافعت عن الأطروحة الاستعمارية محاولة تبرير التدخل الاستعماري في المغرب
المتناقض والمتخلف والذي يعيش في فوضى، فالبحث العلمي خاصة الجغرافي كان ركيزة
أساسية لتعميق المعرفة بالمجال المغربي. وإذا كانت
مختلف الدراسات التي أنجزت حول المغرب إلى حدود نهاية القرن 19 مجرد أبحاث وكتابات
سطحية وغير دقيقة، فإن ما ميز النصف الأول من القرن 20 أي المرحلة الاستعمارية، هو
البعد المؤسساتي والأكاديمي للأبحاث والتي أصبحت منظمة وممنهجة وأكثر دقة راكم
خلاله المستعمر الأجنبي قدر كبير من المعرفة الجغرافية والميدانية مستفيدا من
تجاربه ومهاراته الاستعمارية. مما يعني أن المغرب عرف تحولا مهما، إذ لم يشكل مجالا
للمبعدين بل أصبح مجالا خصبا للأبحاث الأكاديمية. فالبحث الجغرافي أصبح أكثر تطورا
سواء على المستوى الكرطوغرافي، وأيضا على مستوى دراسة الظروف الطبيعية والجوانب
الاجتماعية من خلال القيام بجرد لخيرات البلاد البرية والبحرية السطحية منها والباطنية. وحظي الجغرافيون
بمكانة خاصة لدى سلطات الحماية وبالخصوص لدى المقيم العام ليوطي، وتقوى دورهم في
عملهم كخبراء ومستكشفين بعد أن تم تهميشهم من طرف المدرسة السوسيولوجية، وهنا
سيحدثنا جورج هاردي حين قال سنة 1938 "إنتصرت الجغرافيا عندما علم المستعمر
بالقيمة الإستعمارية لهذا العلم، وسيصرحون بكل صدق اعترافا منهم بدور الجغرافي
بأنه لا أحد كان سيدخل المغرب لولا وجود الجغرافي". طبعا ستتراجع الجغرافيا
بعد أن يبسط المستعمر سيطرتة على البلاد وسيعطي قيمة أكبر منذ سنة 1920
للسوسيولوجي والأنثروبولوجي للبحث في خصوصيات المغرب خاصة دراسة مختلف العلاقات
بين السلطة والزوايا والمخزن والقبائل.
إن
البحث والتفكير في علم الجغرافيا يستدعي أولا التأكيد على أن هذا العلم يعتبر
إشكالية وتحدي أمام الجغرافيين أنفسهم، ففي الوقت الذي عرف فيه ثورة كمية ونوعية
على مستوى الحضور والإنتاج والمساهمة المستمرة في تأطير ومواكبة مختلف الديناميات،
فإنه مازال يعرف غموضا في جوانب إبستمولوجية تحتاج إلى النقاش والتوضيح.
منهجيا،
يواجه الجغرافيون
اليوم صعوبة في التعامل مع
المرحلة الكولونيالية بالنظر إلى طبيعة الخطاب الذي يصعب تأطيره لمرجعيته ولخلفيته
الإيديولوجية والسياسية، ويتضح ذلك في قلة الدراسات التي اهتمت بالمرحلة الكولونيالية
والإنتاج الكولونيالي من زاوية إبستمولوجية، ويحق لنا إعادة طرح أسئلة كمحاولة
لتجاوز المقاربات السابقة أو الوصول إلى مقاربات ذات منحى إبستمولوجي تبحث في الأسس والمرتكزات النظرية للخطاب الكولونيالي بشكل عام، وأيضا استجابة
ومساهمة في النقاش القائم حول الحقل العلمي للجغرافيا.
فهذه
الكتابات التي اهتمت بالخطاب الكولونيالي رغم قلتها تترجم انتماء الباحث إلى حظيرة الجغرافيا، وتعزز الولاء لهذا العلم، لكونها
تحدد طبيعة الخطاب وتظهر مستوياته وهو نقاش مفيد في
العلوم الإجتماعية، فهذه الكتابات محكومة بسياقات متعددة بعضها مرتبط بسياق معرفي أي بتاريخ الفكر والعلم والمؤسسة والإيديولوجيات وهو سياق
يتداخل فيه الإيديولوجي بالمعرفي، وذلك في إطار إعادة قراءة لجزء من تراثنا
الإيديولوجي لكون الجغرافيا تشكل جزء من تاريخنا. وسياق ظرفي زمني مرتبط بسياق وبزمن
الحديث عن الخطاب الكولونيالي.
فنحن اليوم في حاجة بيداغوجية تدريسية وعلمية لهذه الكتابات
وذلك من أجل سد ذلك النقص المعرفي الحاصل على المستوى الإبستمولوجي للجغرافيا
المغربية، ولكن أيضا لفهم طبيعة الخطاب ورمزيته .فهو خطاب إحتضنته المؤسسة الإستعمارية ولم يخل من مرجعيات
إيديولوجية وغايات سياسية كان هدفه أساسا تسهيل الغزو العسكري والإقتصادي للبلاد،
وهنا يقول ميشو بيلير أحد مهندسي المشروع الإستعماري عن البعثة
العلمية الفرنسية بالمغرب "كان هدف هذه البعثة وضع فهرس للمغرب ومدنه وزواياه
ولأصولها وتفرعاتها، وللصراعات والتحالفات وتتبعها في التاريخ عبر مختلف الأسر
الحاكمة، ودراسة مؤسساتها وعاداتها، وباختصار التعرف في حدود الإمكان على الأرض
التي قد ندعى ذات يوم للتدخل فوقها، فتسهل
لنا هذه المعرفة التصرف ونحن على اطلاع جيد".
إبستيمولوجيا،
يمكن القول بأن الجغرافيا الوطنية بعد الإستقلال قد تمحورت حول سؤال أساسي يتضمن
طبيعة العلاقة مع الإرث المعرفي الذي خلفته المؤسسات العلمية الإستعمارية، طبعا
فالتعامل مع الإنتاج المعرفي الكولونيالي تم التعاطي معه بطريقتين ومن طرف فئتين
إن صح التعبير، حيث تعاملت الأولى مع المعرفة الكولونيالية بنوع من الحذر لكونه خطاب
يضم إيديولوجيات استعمارية، بينما تم التعاطي معه من طرف فئة ثانية بعفوية علمية بحكم متنه الصحيح وعدته المنهجية
والميدانية، ومنه فالكتابات الجغرافية لا
يمكن إلا أن تكون ممارسة جدية تأخذ على عاتقها التاريخ والإيديولوجيا والعلم.
أعتقد
أننا لم نقطع مع الإيديولوجيات الكولونيالية لأنها ساهمت في تحديث المغرب وعملت
على استنبات البحث العلمي ومأسسته وتطويره وتقعيده. وهناك نقاش عميق وراهن له ارتباط حقيقي بعلمية الجغرافيا، ولكنه نقاش
متجاوز بأي حال من الأحوال، لكون الجغرافيا أصبحت تفرض ذاتها في
الساحة الفكرية والأكاديمية والعلمية والثقافية والسياسية، وذلك لكون الجغرافيا
تعتبر من العلوم القلائل المواكبة للديناميات العالمية وللمستجدات السوسيواقتصادية
والثقافية.
أما
الصورة التي يوجد عليها الجغرافي المغربي فقد تكون صورة
نمطية، ثابتة أو متغيرة حسب السياق، فالحديث عن صورة الجغرافي المغربي بالخصوص
مرتبط بمدى انخراطه ومساهمته وتواجده وتأثيره في المشهد العلمي والثقافي والسياسي،
ومرتبط بإيبيستيمية السياق الإيديولوجي وبشروط خاضعة لمنطق سلطوي سياسي معقد ومتعدد الأبعاد. فالجغرافي هو
الأستاذ والأستاذ الباحث والكاتب والمثقف والجغرافي أي عالم الجغرافيا والخبير
الجغرافي، هي صفات متعددة، يحمل كل واحد مهام معينة ولكن تجمعهم صفة التخصص
فالجغرافيون يشكلون فئة تتحدث لغة الجغرافيا وناقلة ومنتجة للمعرفة الجغرافية.
يشكل
البحث العلمي معطى عالمي إنساني، ولكنه يعتبر كذلك عنصرا أساسيا لقياس مدى تقدم
الشعوب، ومدخلا مركزيا لتحقيق التنمية المنشودة، ولا يخفى على الجميع أن المشهد
الثقافي بالمغرب يعيش أزمة حقيقية، ويرجع ذلك إلى الإخفاقات المتواصلة لمنظومة الجامعة
والبحث العلمي بفعل انتشار بعض القيم المسيئة للجامعة، منذ أن أصبحث فضاء للصراعات
الإيديولوجية، مما أدى إلى تزايد اندحار الفعل الثقافي أمام الهاجس السياسي. لأن أزمة الجغرافيا
اليوم هي انعكاس لأزمة البحث العلمي
بأعطابه البنيوية، فنحن بحاجة
إلى جغرافي مؤطر ومنخرط وفاعل، بحاجة أيضا إلى الجغرافي والمثقف العضوي بتعبير
غرامشي، وإلى جغرافي أكاديمي واع ومنفتح.
إن
تنظيم الندوات والملتقيات والأيام الدراسية لا يمكن أن يعكس لنا حجم تطور الفكر الجغرافي أو مدى مساهمة الجغرافي في
تأطير الحياة الثقافية، مادام يتم تنظيمها بجامعات دون أخرى، ولكن أيضا عندما يتم
تنظيمها لأسباب إيديولوجية وسياسية أكثر منها علمية
وثقافية. وفي هذا الإطار يجب
فقط أن نلاحظ بأن مختبرات البحث تتركز
في أقطاب دون أخرى، وهناك نوع
من الإهمال يطال الجغرافيا منذ
أن تم تعريبها ومغربتها،
وسننطلق من فرضيتين أساسيتين لمحاولة فهم إشكالية اندحار الجغرافيا، الأولى تتمثل
في كونه علما يساريا مركبا يعتمد على منهج تحليلي مادي، ولكن أيضا لكون
الشعبة تجمع مجموعة متجانسة من الأساتذة الباحثين أغلبهم يساريي التوجه. وتتمثل الثانية في
تموقعها غير المناسب باعتبار الجغرافيا علما يجب أن يدرس على مستوى كلية العلوم
حيث تتوفر بعض الإمكانيات والمختبرات، وحتى إن تم تدريسها على مستوى كلية الآداب
فالجغرافيا تبقى دائما بحاجة إلى آليات وأدوات أولا لتعميق وتطوير البحث الجغرافي
من جهة، ومنح تكوين جيد للطلبة يكسبهم معارف نظرية وتطبقية تسهل إدماجهم في المحيط
الإقتصادي من جهة أخرى.
ورغم
تعدد الإكراهات البنيوية التي يتخبط فيها البحث العلمي فإن المهتمين بالجغرافيا
المغربية الراهنة سيلاحظون وجود بوادر ومحاولات تهدف إلى تطوير هذا الحقل مؤسساتيا
من خلال تنوع الإنتاج من أطاريح وإصدارات، وتعدد فرق ومراكز الأبحاث والدراسات إلى
جانب الإنخراط المتعدد والمتشعب في الشأن السياسي وفي المنظمات العالمية كخبراء
وباحثين ومساهمين في المشاريع الكبرى للتنمية، خاصة القضايا الخاصة بالبيئة والتهيئة وإعداد التراب والتعمير والتراث والتنمية الترابية والمشاريع الترابية وقضايا الجهة والجهوية والمسألة الإقتصادية والموارد الترابية.
وبالنظر
إلى الدور المركزي والريادي الذي يمكن أن تلعبه الجغرافيا في عملية التنمية، أصبحت
الجغرافيا دائما مؤهلة لخدمة قضايا التنمية الترابية، من خلال تكوين جغرافيين
متمكنين من أدوات التحليل، والبحث في المرتكزات النظرية والمقاربات الهادفة إلى
ملاءمة التخطيط الفعال مع الواقع، والبحث في المفاهيم النظرية والمنهجيات المهيكلة
والكيفية التي يمكن من خلالها تحقيق العدالة المجالية وجعل التهيئة منتجة لمجالات
تنافسية.
في
هذا المقال المتواضع حاولت صياغة أو إعادة طرح أسئلة قد تبدو في غاية البساطة،
ولكن لها مشروعيتها التاريخية، محاولا الإجابة عن بعضها أو
تقديم لرأي من منظور شخصي، فالحديث عن تطور البحث الجغرافي يبقا صعبا ومعقدا ويصعب
الإحاطة بكافة جوانبه، لأنه يصعب تقويم حصيلة البحث الجغرافي بالمغرب وحوله، ويصعب
تحديد مساراته واتجاهاته الراهنة، وأيضا يصعب تأطير كل الإنتاج الجغرافي. قد تكون هذه
الأفكار تستحق بحثا كاملا ومفصلا، لأننا لم نشحذ لها عتادها العلمي والمنهجي وحتى
الأدواتي، ولم نستوف جل عناصرها، لهذا فقد خصصنا بعض العناصر لمحاولة فهم سياق وطبيعة
وأبعاد الخطاب الكولونيالي على الأقل في شقه الجغرافي، ونبرر ذلك في كون بعض
الإشكاليات سواء المتعلقة بالمجال أو المجتمع لا يمكن الإحاطة بحقيقتها دون العودة
إلى ذلك الخطاب، وخصصنا بعض السطور كمحاولة جادة منا لتسليط الضوء على إشكالية
البحث الجغرافي الراهن. للإشارة فهذا المقال المتواضع لا يدعي الإجابة عن جل
الأسئلة المطروحة، بل حاولنا من خلاله توضيح موقفنا من بعض الممارسات ولكن من
الجغرافيا الراهنة بالأساس. عموما فهذا الموضوع لم ينل حظه الكافي من الدراسات
لكونه شاسعا ومتشعبا، حاولنا من خلاله رصد سياقات تطور البحث الجغرافي وتسليط
الضوء على وضعيتها الراهنة، فالجغرافيا والبحث العلمي تم استنباتهما في سياق خاص وفي ظرفية جيوسياسية تميزت بالنزعة الإمبريالية، فعلى
المستوى الإبستمولوجي فالجغرافيا نتاج للمشروع الإستعماري، حيث تم تسخيرها إيديولوجيا لتمرير الخطاب والسيطرة على البلاد، مما يوضح أن البحث
العلمي لم يكن مجرد ترف فكري أو عمل مجاني
بل شكل أداة استراتيجية وآلية لإرساء نظام الحماية.
ويقع
البحث الجغرافي اليوم بين استمرارية التأثير الأجنبي وهيمنة
المناهج الأجنبية ومحاولة إرساء لمدرسة جغرافية تحمل خصوصيات ملائمة للواقع الوطني
المغربي. فالجميع مدعو اليوم من مسؤولين ومثقفين وأكاديميين باحثين وسياسيين لتحمل
المسؤولية وإعادة النظر في هذا الحقل المعرفي ليس فقط من الزاوية الإيديولوجية
والثقافية ولكن أيضا من زوايا معرفية
بيداغوجية علمية أكاديمية من
أجل ضمان تكوين ذو جودة منفتح على المحيط، ومن أجل المساهمة في إيجاد حلول لإشكاليات
راهنة، وتوجيه بوصلة الإختيارات الإستراتيجية نحو قضايا حساسة ومساعدة القائمين
على تدبير الشأن الترابي والتنموي على اتخاذ القرارات الملائمة.
0 التعليقات لموضوع "أسئلة حول سياقات تطور البحث الجغرافي بالمغرب"
الابتسامات الابتسامات