السياقات المحددة لتطور البحث الجغرافي بالمغرب.

يأتي هذا المقال في إطار انفتاح المدونة على مختلف المهتمين (أساتذة، طلبة باحثين، ...) بنشر مقالاتهم العلمية، وتشجيعا لهم على الإستمرار وكذلك مشاركة انتاجاتهم على أوسع نطاق ممكن، ويجب الاشارة أن جميع الأراء تعبر عن أصحابها، ويبقى دورنا تعميم وجهات النظر و خلق نقاش مستفيض.... إدارة المدونة.

السياقات المحددة لتطور البحث الجغرافي بالمغرب.

يوسف عاشي: طالب باحث، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مكناس.


youssefachi1992@gmail.com

إن الحديث عن مسار تطور البحث الجغرافي حول المغرب يتطلب منا الإعتراف بصعوبة المهمة وذلك للأسباب التالية:

 -صعوبة رصد وتأطير الموضوع في جل جوانبه المنهجية والتاريخية والمعرفية والإبستمولوجية.
 -لا يمكننا التطرق لكل المراحل التي قطعها البحث الجغرافي حول المغرب منذ مأسسته سنة 1916 أو على الأقل منذ الإستقلال إلى الآن.
 -صعوبة رصد الحصيلة والإنتاج العلمي الجغرافي أي كل ما كتب حول المغرب من الزاوية الجغرافية.
سنقتصر على أسئلة محورية لتسليط الضوء على الآليات المتحكمة في تطور البحث الجغرافي، وذلك لإثارة قضايا إشكالية، منهجية وإبستمولوجية لإغناء النقاش حول الموضوع من جهة ومساهمة منا في محاولة لبناء تصور متكامل حول مستقبل الجغرافيا بالمغرب، انطلاقا من تساؤلات نقدية.
كيف يمكننا تأطير السياقات المحددة لتطور البحث الجغرافي بعد الإستقلال؟ كيف واكب البحث الجغرافي قضايا المجال والمجتمع لمغرب ما بعد الإستقلال؟ وهل استطاع الدرس الجغرافي فعلا مواكبة مختلف المستجدات المجالية رغم مأزقه الإبستمولوجي؟ ما هي المرجعيات التي يستمد منها البحث الجغرافي بالمغرب مشروعيته؟ وما هي المقاربات المستعملة في الدراسة والتحليل الجغرافي لقضايا المجال المغربي؟
إن الأسئلة التي يطرحها واقع البحث الجغرافي ليست وليدة الصدفة، بل هي نتاج لسنوات من البحث والإنتاج ضمن سياقات تاريخية متغيرة خاضعة لشروط إبستمولوجية، وذلك في ظل تنوع المقاربات والمناهج والأدوات والمفاهيم النظرية.
لقد أدى خروج المستعمر إلى فراغ كبير على مستوى جل القطاعات، وشكلت هذه المرحلة منعرجا حاسما في تطور البحث الجغرافي بالمغرب وحوله. إن ما ميز هذه المرحلة هو استمرار التبعية للتوجهات الأجنبية، فالإرث الكولونيالي معطى تاريخي له ثقله وتأثيره المعرفي الأكاديمي والأيديولوجي، وشكل قاعدة أساسية للبحث الجغرافي. حيث سيتأثر البحث العلمي وخصوصا البحث الجغرافي بعد مغادرة أغلب الأطر الذين ظلوا يشكلون الركيزة الأساسية للمعرفة نتيجة انعدام الشروط الموضوعية للممارسة، تميزت مرحلة ما بعد الإستقلال بإحداث جامعة محمد الخامس سنة 1957، كما عمل المغرب على تأسيس مدارس وجامعات، وفي هذا الإطار بادر إلى تكوين الأطر الوطنية أي مغربة الأطر لسد الفراغ الذي تركه المستعمر واستقطاب بعض الأطر من المشرق منذ بداية السبعينات.
ورغم صعوبة هذه المرحلة، استمر البحث الجغرافي وتواصلت معه سيرورة الإنتاج بفعل بقاء ثلة من الفرنسيين لاستكمال دراساتهم وأبحاثهم وأيضا بفضل بعض المساهمات للأساتذة المغاربة، لكن سيتوقف إصدار مجلة جغرافية المغرب (4197-1976) بالموازاة مع التعريب الذي أدى إلى مغاردة الأساتذة الباحثين الفرنسيين المهيكلين للبحث الجغرافي.
اتسمت مرحلة ما بعد الإستقلال بالمخاض الذي عرفته الجامعة المغربية والتي دخلت مرحلة انتقالية تمثلت في محاولة التخلص من التبعية والعمل على إثبات الذات، فالتبعية إشكال مفاهيمي له حمولته الإديولوجية وثقله التاريخي لأنه يحيلنا إلى مرحلة الحماية حيث عمل المستعمر على خلق بنيات تعليمية وفق القالب أو النموذج الفرنسي، وبالتالي فالتبعية هي استمرار أثر السياسة الفرنسية الممنهجة على مستوى الأنظمة التعليمية والتي ارتبطت إبستيمولوجيا ومنهجيا وإداريا بالنموذج الفرنسي (الفرنسة).
لقد ركز البحث الجغرافي أبحاثه على المجالات المنتجة في السهول والمناطق الآهلة بالسكان أو ما كان يسمى بالمغرب النافع، وبقيت الأبحاث ضعيفة في المجالات الأخرى أي بالمغرب العميق، وركزت على الجوانب الطبيعية، إضافة إلى قضايا الأرياف والفلاحة. أما لغة الكتابة فقد هيمنت اللغة الفرنسية إلى حدود بداية السبعينات التي عرفت بداية إرساء مشروع التعريب.
فالمغربة والتعريب والتوحيد والتعميم شكلوا المبادئ الأربعة المعتمدة غذاة الإستقلال لإرساء دعائم النظام الخاصة بالبحث العلمي بمغرب ما بعد الإستقلال. والنتيجة ستكون قاسية على الجغرافيا كشعبة، فالتعريب كمشروع ضيق اقتصر على ترجمة المضامين، ولن يخلص الجغرافيا من التبعية، بل عمل على تكريسها ولكن بشكل آخر، أدت هذه الوضعية إلى ضعف انفتاح الطلبة والأساتذة على اللغات الأجنبية، وضعف إلمامهم باللغة الفرنسية، وسيؤثر ذلك حتما فيما يخص متابعة الدراسات العليا، وبالتالي صعوبة ادماجهم في عالم الشغل، لأن اللغة الفرنسية لازالت تحتل مكانة أساسية في المنظومة الإقتصادية للبلاد.
في هذه المرحلة لم تكتف الجغرافيا بالإشكاليات التي أسسها الخطاب الكولونيالي، حيث ستساهم أسماء لامعة بثقلها المعرفي كما هو الحال للجغرافي المغربي أحمد الغرباوي بأطروحتين أكاديميتين إضافة إلى كل من محمد الناصيري وبول باسكون في بلورة إشكاليات حقيقية حول المجال والمجتمع المغربي.
ومنذ بداية الثمانينات سينتقل الإهتمام من قضايا الأرياف والفلاحة إلى توجيه الإهتمام للمدينة، حيث سيعرف المغرب بداية بروز الظاهرة الحضرية (التمدين)،  ومنه ستتجه الأبحاث نحو تأطيرها ومواكبتها، حيث عملت الجامعات المغربية بدورها منذ التسعينات على الانخراط العلمي والاكاديمي في النقاش العام حول الديناميات التي يعرفها الشأن الحضري الوطني عبر دعم إنشاء فرق البحث والمختبرات العلمية المهتمة بقضايا المدينة وتحولاتها، فقد كان للباحثين الجغرافيين فضل كبير في توجيه العلوم الاجتماعية نحو قضايا المدينة بتعزيز سيرورة البحث العلمي في المجال وتنظيم الندوات والمؤتمرات وإصدار المؤلفات والتقارير الامر الذي يفسر اليوم الهيمنة الواضحة للدراسات الجغرافية على حقل البحث الحضري المغربي المعاصر، في ضوء توسيع البنيات وانشاء عدة مكاتب وفرق للبحث. حيث ستبرز إشكاليات التهيئة والتخطيط، التأهيل والتجديد، التراث، تدبير المجال الحضري، إنتاج المجال الحضري، المدن الذكية...
إنخرطت الجغرافيا والجغرافيون في سياسة إعداد التراب الوطني والتي تعود إلى مختلف المشاريع والمخططات الكبرى التي شهدها مغرب ما بعد الإستقلال منذ الستينات (مشروع حوض سبو، مشروع الديرو)، وجاء انخراط البحث الجغرافي في سياسة إعداد التراب في ظل تزايد الإختلالات والفوارق السوسيواقتصادية والمجالية، حيث ساهمت الأبحاث الجغرافية في التنظير لمختلف الإشكاليات المجالية، وساهم الجغرافيون في تنشيط وإنجاح الحوار الوطني لإعداد التراب الذي شكل حدثا ومحطة هامة في تاريخ المغرب، وتميزت بتعيين كاتب عام جغرافي في وزارة إعداد التراب الوطني، وتعيين مدير جغرافي على رأس مديرية إعداد التراب، نتج عنه إنتاج وثائق مهمة حول واقع حال المجال المغربي، إضافة إلى الميثاق الوطني لإعداد التراب والتصميم الوطني لإعداد التراب، هذا وأدى الحوار الوطني إلى تعيين المجلس الوطني لإعداد التراب تهيمن فيه تركيبة جغرافية من الباحثين، إضافة إلى مشاركتهم في إعداد تقارير اللجنة الإستشارية للجهوية، فالجغرافي إذن ممارس في المجال التنموي.
أصبحت الجغرافيا ترسم طريقها نحو النجاح، بعد إيمان المؤسسات بوظيفتها ودورها المركزي في المشاريع التنموية وإعداد التراب وتوجيه السياسات العمومية نحو قضايا المجال والمجتمع. أما على المستوى المفاهيمي، فالإنتقال من المجال إلى التراب قد وضع الجغرافيا في مأزق نظري، وشكل هذا الإنتقال خطوة منهجية في السياسات العمومية التي تهم المجال/التراب، ولكن أيضا في البحث الجغرافي، كالإنتقال مثلا من التنمية المحلية إلى التنمية الترابية، ومنه الحديث عن مفاهيم غالبا ما يتم ربطها بالتراب )التنمية، التشخيص، المشروع، التسويق، الذكاء، الحكامة ، السياسة...)، طبعا هي مفاهيم مستوردة، لكن يبقى التساؤل مطروحا حول مدى ملاءمتها  مع الأيديولوجيا التنموية الوطنية. وأيضا في مدى ملاءمة هذه البنية المفاهيمية للسياق الوطني وللتحديات التي يطرحها الواقع المجالي المغربي بإشكالياته المعقدة والتي ما تزال مطروحة لأكثر من قرن من الزمن، ويتعلق الأمر بالفوارق والإختلالات السوسيومجالية.
إن الوضع الذي آلت إليه الجغرافيا اليوم هو ترجمة لوضعية الجامعة المغربية، وبالخصوص بما آلت إليه العلوم الإجتماعية، وهو ما دفع الجغرافيين إلى الإنخراط في نقاش عميق منذ بداية الألفية الثالثة بالموازاة مع المصادقة على الميثاق الوطني لإصلاح التعليم، نتج عنها إعادة النظر في طرق تدريس الجغرافيا ومحتوياتها وأهدافها. ولم تعد الجغرافيا علما إيديولوجيا، بل أصبحت تخصصا كونيا واستراتيجيا وذلك بانتقالها من خدمة الحرب والإستعمار إلى الإهتمام بقضايا التنمية والإنسان.
ففي الوقت الذي ينادي فيه بعض الباحثين بإخراج الجغرافيا من القسم إلى الميدان، فإن الجغرافيا مطالبة أولا بالإنفتاح على العلوم الإجتماعية المجاورة ومختلف التخصصات خاصة التاريخ والسوسيولوجيا والعلوم الإقتصادية والقانونية، وذلك لتجاوز الطرح التقليدي الذي لازم تطور البحث الجغرافي المتمثل في الإزدواجية (جغرافيا عامة/جغرافيا إقليمية، جغرافيا طبيعية/جغرافيا بشرية، جغرافيا قروية/جغرافيا حضرية)، لأنه يصعب إدراج الجغرافيا في خانة العلوم الأمبريقية أو الإنسانية والإجتماعية، فالجغرافيا علم تركيبي تحليلي وميداني، تستمد مشروعيتها من الميدان وكذلك من تنوع المواضيع والظواهر المدروسة وتعدد المناهج والمقاربات والمفاهيم النظرية، والأدوات المعتمدة (نظم المعلومات الجغرافية، الإستمارات، الإحصائيات...).
الإرتقاء بالجغرافيا ينبغي أن يتم من منطلقات ومداخل إبستمولوجية من خلال إعادة قراءة وفهم المنتوج المعرفي الجغرافي الكولونيالي وتحديد أبعاده ومرتكزاته وبنياته ومدى تأثيره في توجيه البحث الجغرافي الراهن، وفي إطار اللامركزية الجهوية ينبغي إعادة النظر على مستوى توزيع المختبرات ومراكز الأبحاث والدراسات بين الجامعات، لتحقيق نوع من التوازنات، ولكن أيضا من أجل تكافؤ الفرص. أما على مستوى لغة التدريس، فالجغرافيا مطالبة بإدماج اللغات الأجنبية في التكوين البيداغوجي خاصة اللغة الأنجليزية لكونها لغة العلم ومستقبل البحث الجغرافي وأيضا باعتبارها لغة المناهج والأدوات (التطبيقات والتقنيات المساندة بالحاسوب). إضافة إلى ضرورة الإنفتاح المتواصل على الجامعات الأجنبية من خلال إبرام الإتفاقيات لتسهيل وتمكين الطلبة الجغرافيين المغاربة من متابعة دراساتهم العليا بالمعاهد والجامعات الأجنبية.

تنويه : الصور والفيديوهات في هذا الموضوع على هذا الموقع مستمده أحيانا من مجموعة متنوعة من المصادر الإعلامية الأخرى. حقوق الطبع محفوظة بالكامل من قبل المصدر. إذا كان هناك مشكلة في هذا الصدد، يمكنك الاتصال بنا من هنا.

عن الكاتب

Guennach Oussam : تخصص الجغرافية الطبيعية والتهيئة ومتخصص في نظم المعلومات الجغرافية والاستشعار عن بعد هدفنا هو الافادة/والاستفادة والله المستعان

0 التعليقات لموضوع "السياقات المحددة لتطور البحث الجغرافي بالمغرب."


الابتسامات الابتسامات