حقيقة إبستمولوجيا الجغرافيا بين الإيديولوجي والعقائدي.
قراءة في كتاب الجغرافيا:
القول فيها والقول عنها البحث عن الهوية
يوسف عاشي: باحث جغرافي.
Youssefachi1992@gmail.com
إن
قراءة كتاب محمد بلفقيه تحكمها أسباب بيداغوجية بالأساس ارتباطا بميزة الكتاب الأكاديمية، لكون الكتاب يشكل مرجعا
يجمع بين تأريخ المراحل الأساسية التي قطعها البحث الجغرافي، وعمقه الإبستمولوجي
المنفتح على العلوم الإنسانية والإجتماعية. فنحن لا نسعى إلى انتقاد أطروحته بقدر
ما نسعى إلى تقريب الطالب الباحث من المعرفة الجغرافية في بعدها الإبستمولوجي،
باعتبار أن هذا الكتاب يشكل المنطلق الأساسي لطلبة الجغرافيا في بداية مسارهم
الأكاديمي، بل ويشكل مدخلا إبستمولوجيا لفهم العلوم الإنسانية والاجتماعية.
يحمل
الكتاب عنوان "الجغرافيا: القول فيها والقول عنها، البحث عن الهوية، ألفه
الأستاذ محمد بلفقيه، هو كتاب من الحجم المتوسط صادر عن دار النشر العربي الأفريقي (1991)، ويقع
الكتاب في 210 صفحة ويتميز بصيغة فريدة من نوعها من حيث الهيكلة أي بإدراج
النص والإحالة معا. واعتمد 223 مرجعا 84 منها باللغة الإنجليزية ويضم 354 إحالة، وتميزت لغة الكتاب حمولة
فلسفية وإيديولوجية "سياقوية" وثقل عقائدي، ويشمل أربعة فصول حاول من خلالها
الأستاذ محمد بلفقيه تسليط الضوء على تطور الفكر الجغرافي عبر التاريخ محددا
المراحل الأساسية التي مر منها. فكيف حاول الأستاذ محمد بلفقيه التأسيس
لإبستمولوجيا الجغرافيا من منظور عقائدي؟ فهو كتاب مؤسس لإبستمولوجيا الجغرافيا باللغة
العربية. أثار الكاتب
نقاشا واسعا بين المهتمين بالعلوم الإجتماعية وخصوصا الجغرافيين، وتلقى الكثير من
الإنتقادات خاصة من طرف اليساريين منهم. ألف هذا الكتاب لهاجسين أساسيين: هاجس بيداغوجي أي تربوي وتدريسي
سيسمح لطلبة وأساتذة الجغرافيا أن يعرفوا المسار الذي قطعه البحث الجغرافي في
العالم، وهاجس مقارباتي وذلك بناء على موقف شخصي، أي أن العلوم الإجتماعية بدون
إطار عقائدي شيء غير مجدي. ففي محاولته للتأريخ لعلم الجغرافيا، حاول محمد بلفقيه في البداية توضيح
موقف بعض المناهضين الذين هاجموا الجغرافيا ولم يعترفوا بعلميتها، ويؤكد أن الأدهى
من ذلك هو تغييب أحد الأعلام الابستمولوجيين (ج.بياجي) للجغرافيا في كتاباته، وانتقل
إلى ذكر تصور الجغرافيين أنفسهم للجغرافيا، وكرد على الهجمات التي انهال بها هؤلاء،
خصص فقرة عنونها بـ "الجغرافيا في المعاجم العلمية" وذلك لإثبات علمية
الجغرافيا. كما اعتبر أن القصور الإبستمولوجي للعلوم الإنسانية كان سببا رئيسيا في أزمة
الحضارة المعاصرة. ثم دعا إلى التأسيس لمشروع جغرافي أصيل يهدف إلى توظيف القراءة التاريخية
كمدخل عام لإبستمولوجيا الجغرافيا، فكان لابد من وضع تشخيص شامل لأجل فتح آفاق التطور. فالكاتب متفائل من بناء
مشروع جغرافي جديد بالنظر للظروف الحالية المواتية رغم اعتقاد البعض استحالة هذا
المنظور نظرا للتنافر القائم في الموضوع. أما بالنسبة لمشروع العلوم الانسانية
الذي يتصوره من خلال رؤية إسلامية ينحصر في مثلث رحب حسب تعبيره، الأولى تكمن في
عقيدة التوحيد والثانية في مقاصد الشريعة، أما الثالثة تكمن في المصالح المرسلة. كما يرى أن التصور الإسلامي
وحده الكفيل لصياغة هذا المشروع وحسب تعبير الكاتب ستصبح الجغرافيا في النسق
الفكري الاسلامي مطلبا شرعيا.
لذا قام الأستاذ بقراءة في
تاريخ الفكر الجغرافي، وبين أن الجغرافيا تقوم على ثلاث ركائز: الموضوع والمنهج
والمردودية الاجتماعية، وتساءل عن حقيقة علم الجغرافيا الذي ظل وضعه غامضا، مما أدى إلى طرح
أكثر من سؤال حول ماهية الجغرافيا وموضوعها ومناهجها وأهدافها؛ وقام بدراسة نقدية شاملة وتقويم
ابستمولوجي للفكر الجغرافي الحديث والمعاصر في الغرب منذ تأسيسه بداية القرن 19. كما وضح بلفقيه إلى أن تطور
الفكر الجغرافي مرتبط بشكل كبير بالتطور الحاصل على مستوى فلسفات ونظريات
وإيديولوجيات الغرب، لذلك إنتقد بشدة هيمنة هذه الفلسفات الغربية على العلوم الإنسانية
والإجتماعية، وخاصة الجغرافيا، وذلك بسبب طابعها العلماني المحض الذي يدفع
الجغرافيا إلى التعاطي مع الماديات وإهمال الجوانب الروحية، ودعا إلى اعتماد المذهبية الإسلامية لتأطيرها.
وركز
على التمييز بين المدرستين الألمانية والفرنسية، مبرزا مدى مساهمتهما في وضع أسس
وقواعد الجغرافيا، ودورهما في الرقي بالفكر الجغرافي الحديث، حيث كانت للأحداث السياسية والأوضاع
الإقتصادية والحركات الإجتماعية تأثيرا واضحا في تطور الفكر الجغرافي في الغرب،
لكنها اختلفت بين كل من فرنسا وألمانيا وإنجلترا، وهذا الكتاب يعطي ميزة خاصة للمدرسة
الألمانية رغم تورطها تاريخيا في النزعة العرقية، لكنها تشكل المدرسة الحقيقية
المؤسسة للجغرافيا، وأكد الأستاذ أن راتزل قام برد الإعتبار للجغرافيا البشرية، بل قام بوضع
أسسها العلمية، كما هو الشأن لفيدال دو لبلاش واضع أسس الجغرافيا البشرية بقيادة المدرسة
الفرنسية. وقد تطور الفكر الجغرافي مع التوسع الإمبريالي وحاجة دول أوروبا الغربية
لدراسة المستعمرات. بعد ذلك عرفت العلوم الإجتماعية تطورا ملحوظا بما فيها التاريخ والجغرافيا
في أواخر ق 19 بمساهمة كل من دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية.
أما
على المستوى الأكاديمي، فإن الجغرافيا لم يكن لها حضور وازن في جامعات فرنسا، لكن
المدرسة الفرنسية ستصل أوجها في أواخر ق19 وبداية ق 20 بقيادة دولبلاش والذي كان
له تأثيرا كبيرا في تطور الفكر الجغرافي والإعتماد على الجغرافيا كمادة أساسية في
الجامعات الفرنسية، ورغم تركيز المدرسة الفرنسية على الجوانب الإجتماعية، إلا أن
دولبلاش أكد أنها علم مكان وليست علم إنسان. هذا بالإضافة إلى مساهمات بول كلفال
الذي إنتقد أفكار دولبلاش.
ورغم
أهمية المدرسة الأمريكية تبقى رهينة بالمدارس الأروبية خاصة المدرسة الفرنسية، ومنذ النصف الثاني من القرن
19 نشأت الجغرافيا بالولايات المتحدة الأمريكية لكنها لم تدخل الجامعات التقليدية
بشرق البلاد، بالمقابل أخذت مكانها بين العلوم الإنسانية في الجامعات الفتية في
الغرب، خاصة بعد ظهور مدرستي ميدل ويست وبروكلي. أما الجغرافيا البريطانية، فلم
تكن تهتم سوى بالمستعمرات والكشوفات الجغرافية، ولم تطأ الجامعات إلا في أواخر ق
19؛
أما الجغرافيا
الروسية فقد زاوجت بين مفهومي المشهد والبيئة بناء على المدرسة الألمانية، وطورتها
لتلائم بيئتها، وحسب بلفقيه، فإن الجغرافيا الروسية أخذت لون الماركسية اللينينية
كغيرها من العلوم ولم تستطيع التحرك إلا في نطاق المادية الجدلية مع التحرر من
الحتمية، بتبنيها لتيار يرفض أن يكون الإنسان خاضعا للطبيعة، لكن الجغرافيا
السوفياتية إهتمت بالجانب الطبيعي وأهملت جوانب أخرى. أما في باقي أنحاء أروبا الشرقية فقد
تطور الفكر الجغرافي متأثرا بالنزعة الألمانية والتي ألقت بظلالها على أغلب أقطار
أروبا، أما باقي أقطار العالم بآسيا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا فكان متأثرا
بالتبعية للغرب. لقد عاشت الجغرافيا سنوات من الإنحطاط فيما بين الحربين متأثرة بالوضع الكارثي
الذي كانت عليه أوروبا، لكن سيتم الإعتماد عليها في التخطيط للمستقبل ومحاولة
تفادي المشاكل خاصة تحقيق التوازن بين الجهات، والسعي لتحقيق النمو والتطور.
وستعمل
أوروبا بعد الإستيقاظ من كابوس الحرب على إعادة البناء والتنظيم لكن على حساب
البيئة الطبيعية حيث الثورة الصناعية الجديدة، ما أدى إلى بروز تيارات تطالب
بالعدالة الإجتماعية والحفاظ على البيئة خاصة في ظل تفشي الأزمات المرتبطة بالطاقة
والخوف من المستقبل في سياق التفاوتات الصارخة بين دول العالم. إلا أن الفكر الجغرافي في
السبعينيات أصبح يسند على التصورات الماركسية والتي لعبت دورا هاما في توثيق الصلة
بين الجغرافيا وباقي العلوم الإجتماعية، وهي مرحلة صعبة في تاريخ تطور الفكر
الجغرافي الذي غلب عليه طابع تعدد المواضيع خاصة البيئية منها. ورغم إيجابيات الثورة الكمية في الجغرافيا إلا
أن المواضيع الإجتماعية تم إهمالها حتى السنوات الأخيرة من ق20. وخلص الأستاذ في كتابه إلى
ضرورة الإهتمام بالموضوع رغم تعدد التيارات الموجهة للفكر الجغرافي المعاصر.
لقد حاولنا باختصار شديد أن
نسلط الضوء على إحدى الكتابات المؤسسة لإبستمولوجيا الجغرافية باللغة العربية ومن
زاوية أكاديمية، وحرصنا على التزام الموضوعية في ترجمة الأفكار التي يقدمها الكتاب. إن قراءة كتاب
محمد بلفقيه تبقى صعبة ومعقدة لأن العلوم الإجتماعية تشكل حقلا معرفيا مضطربا بالنظر إلى منطلقاتها الفلسفية
الحديثة، ولأن الكتاب عبارة عن متن تقليدي متعدد الأبعاد بحمولة فكرية جغرافية
وفلسفية وأحيانا إيديولوجية وعقائدية، ولأن فهم هذا الكتاب يدفعنا إلى ضرورة الإطلاع على الجزء الثاني
المعنون ب"الجغرافيا: القول فيها والقول عنها، مقومات إبستمولوجية"، بل وإلى قراءة في القراءات
التي حاولت أن تضيء الكتاب من زوايا مختلفة، ويحتاج مجهودا فكريا نظريا لفك شفراته
وتبسيطها للقارئ.
0 التعليقات لموضوع "حقيقة إبستمولوجيا الجغرافيا بين الإيديولوجي والعقائدي، قراءة في كتاب الجغرافيا: القول فيها والقول عنها البحث عن الهوية"
الابتسامات الابتسامات